لنيل قدر وافر من المنافع مقابل قليل من السعي وسر ذلك أن الإنسان ميال بالطبع إلى الراحة والكسل ولولا دافع حب الحياة وطول البقاء لما أجهد نفسه في شيء من أمر معاشه وعندما يبتغي شيئاً من المواد النافعة للقيام بحاجاته مباشرة أو بالواسطة فإنه يبحث عن الطرق التي تقلل من تعبه وتوفر له النفع والفائدة.
وإذا أمعنا النظر في هذا الأصل نراه منبعثاً من عاطفة حب الذات المنطوية في جوانح كل إنسان. وهذه العاطفة هي ولا جرم أعظم العواطف عملاً وأشدها تأثيراً. فهي المحرك الأكبر في غالب الأعمال، والباعث الأقوى في أكثر المشاريع، والمؤثر الأعظم في جل الأمور إن لم نقل في كلها. ولهذه العاطفة المكانة العليا في الاقتصاد والإثراء وتوفر الرفاهية وتقدم الحضارة.
ظن بعضهم أن عاطفة النفع الذاتي هي الأنانية بعينها المضادة لحب خير الغير فحكموا بوجوب عدم الالتفات لتلك العاطفة جرياً على ما تقتضيه قواعد الأخلاق. ولاشك أن الأنانية من الرذائل التي يجب على كل حال اجتنابها ولكن عاطفة حب الذات والنفع الشخصي هما غير الأنانية وبينهما بون شاسع.
فالأنانية أن يضع الإنسان نفسه مكاناً علياً وينزل غيره في دركات الانحطاط فيرى احتقار الغير والازدراء به أمراً طبيعياً ويرى نفسه خليقة بالتجلة والتعظيم دون سواها. فينشد المنافع والملاذ من أي طريقة كانت مشروعة أو غير مشروعة أضرت بغيره أو لم تضر. ومن تستحكم فيه هذه الخصلة يكون قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وطبعه شر الطباع لا تثنيه شفقة، ولا تعطفه رحمة، ولا تستميله مروءة ولا نخوة.
أما عاطفة النفع الشخصي فهي شعور يدفع الإنسان إلى استجلاب النفع لذاته من طرقه المشروعة بدون أن يلحق ضرراً بغيره ويرق لمصاب سائر الناس في غالب الأحيان ويتصدق من ثمرة مساعيه بما تهديه إليه نفسه. ولا يتجرد امرؤ في العالم عن هذه العاطفة لأنها من نتائج حب الحياة الطبيعية. غير أن تقدير النفع الشخصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمزجة والمحيط والفكر والتربية وغير ذلك. ومن زهدوا في الدنيا واختاروا عيش التقشف في صوامع التعبد فإنهم لم يريدوا بذلك إلا تحصيل نفع أعظم ونيل لذة أسمى من منافع الدنيا وملاذها. وما صلاتهم وصيامهم إلا رجاء الخلاص من العذاب