ثياب غليظة أكثرها صوف وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان وقال لي: يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان فقلت له: هو نائم هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف حملتين على ذلك نزوة الصبا وما رأيت من خشونة هيئة الرجل ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بيديكم فقلت له: ما سؤالك عنه فقال: أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب. فقلت هو كتاب الأغاني فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه قلت: بلغ موضع كذا وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه فقال: وما لكاتبك لا يكتب قلت: طبعت الأصل منه الذي يكتب من لأعارض به هذه الأوراق فقال: لم أجيء به معي فقال: يا بني خذ كراريسك وعارض قلت: بماذا وأين الأصل قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي قال: فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال يا بني أمسك عليّ قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ فو الله إن أخطأ واواً ولا فاءً قرأ هكذا نحواً من كراسين ثم أخذت له في وسط السفر وآخره فرأيت حفظه في ذلك كله سواءً فاشتد عجبي وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره وكان ملتفاً برداءٍ ليس عليه قميص وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه ويقول: يا مولاي اعذرني فو الله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة وجعل يسبني والرجل يحفض عليه ويقول: ما عرفني وأبي يقول: هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأب. ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلاً ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت وحلف عليه ليركبنها ثم لا ترجع إليه أبداً فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا العظيم قال لي: اسكت ويحك هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الأدب هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني ـ رواها المراكشي.
وروى أيضاً قصة تشبهها قال: أنه لزم أبا جعفر الحميري آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس المتوفى سنة ٦١٠ نحواً من سنتين فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة من أدرك جلة من مشايخ الأندلس فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب وأعانه على ذلك طول عمره وصدق محبته وإفراط شغفه بالعلم قال لي ولده عصام وقد رأيت عنده نسخة من