للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

النفوس لسطوتها فحاول محمد الفاتح أحد ملوكها أن يجعل من القسطنطينية دار علم كما هي دار ملك مجاراة لدولة الجراكسة في مصر والشام وأعظم لذلك الأعطيات والهبات وأنشأ المدارس وحبس الأوقاف ولكن ذلك لم يدم إلا بدوامه حتى إذا مضى لسبيله عادت الحكومة إلى زهدها في العلوم وقد صارت رسمية على عهد المفتي أبي السعود الذي سعى لجعل العلم وراثياً وصار ابن العالم يرث أباه ووظائفه ورواتبه وإن كان أجهل من قاضي جُبَّل. وعالم هذه حاله هو الجناية الكبرى على الدين والدنيا والبلاء العمم على البلاد.

ومع أن الفرس والترك سواءٌ في العجمة فالفرس أقدر من الترك على تلقف اللغة العربية منذ القديم. والعربية لغة الدين لا يبرز في علومه من لم يتعلمها ولا يفهم الكتاب والسنة من لم يحكم بيانها. وما تراه من حال علماء فارس اليوم وإتقانهم العربية وارتقاء علومهم الشرعية وانحطاط العربية في بلاد الترك وضعف ملكة العلوم الدينية فيها لا يرجع إلا إلى أن ميل أبناء فارس إلى إحكام العربية قديم فيهم وأن الترك بأمرائهم المتبربرين جمدوا على فروع قليلة من الفقه والكلام وزهدوا فيما عداها فجنوا على البلاد جناية كبرى.

لما أرادت الدولة أن تنهض وتتشبه بأوربا وأخذت على عهد سليم الثالث تتعلم فنون الحرب والبحر والسياسة وما ينبغي لها من الطبيعة والرياضة والاجتماع أخذت روح التفلسف تسري إلى الأستانة ومنها سرت إلى الولايات ومصر فلم يعبأ أنصار القديم بما رأوه أولاً واحتقروا ذاك السيل الجارف الآتي عليهم من أوربا وارتأى بعضهم أن خير ما يقابل به المتزندقون أن يكفروا أو يحرموا أو يضربوا أو يحبسوا أو يهددوا بالقتل أو يقتلوا ولم يعدوا لذلك من العدد اللازمة لبث دعوتهم وحفظ ملكة الدين في القلوب لتسير مع علوم الدنيا كتفاً إلى كتف وجاءت أدوار أصبح الوزراء وولاة الأمر إلا قليلاً من الطائفة التي نزعت ربقة القديم فلم يبق عليها إلا اسمه بل كان بعض المتطرفين في انحلالهم يدعون سراً وجهراً إلى عدم التأدب بآداب الدين محتجين بما هو مائل للعيان من فساد القائمين عليه وانحطاط المنتسبين إليه.

وها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين والدنيا والأمة شطرين شطر هو إلى البلاهة والغباوة وشطر إلى الحمق والنفرة وبعبارة أخرى نسينا القديم ولم نتعلم الجديد. ومن الغريب أن معظم المستنيرين بقبس العلوم الأوربية منا لا يرجعون إلى آداب دينهم