حاول السلطانان الأولان من الموحدين وهما عبد المؤمن ويوسف وكانا يميلان إلى الحرية أن يخففا من تعصب عصاباتهما ومن تشدد المتنطعين من المتصوفة حتى حظر عبد المؤمن إحراق الكتب على نحو ما كان يفعل المرابطون لإبادتها وأحسن معاملة ابن الطفيل وابن زهر وابن باجة. وأغدق يوسف وكان أعلم أمراء عصره على ابن الطفيل من إنعامه الشيء الكثير وقرأ عليه فلسفة ابن رشد وفوض إليه أرقى المناصب ومنها منصب القضاء في إشبيلية ثم أقامه طبيباً أول فيقصره (١١٨٣) ووسد إليه منصب قاضي القضاة في قرطبة على نحو ما كان أبوه وجده. وأفاض عليه يعقوب المنصور بالله ما كان له من أسلافه وزاد عليه ولكن إرادة شخص ولو كان ملكاً لا تقوى على صد هجمات تيار الرأي العام ولاسيما في عصر كان فيه سلاطين الموحدين مضطرين إلى إضرام جذوة التعصب فينفوس رعاياهم المسلمين من الأندلسيين لمعاكسة ملوك قشتالة وأراغون الذين كانوا على الدوام يتقدمون إلى الأمام.
وفي سنة ١١٩٦ بعد وقعة الأركوس التي كتب فيها النصر للمنصور على ألفونس التاسع صاحب قشتالة قويت شوكة الحزب الديني في القصر السلطاني ونكب ابن رشد على شيخوخته نكبة هائلة تناولت كثيرين من العلماء والأطباء والشعراء بل والفقهاء متهمين بحرية الفكر والخروج عن مقصد الجماعة. وطرد العامة ابن رشد على أبشع صورة من الجامع الأعظم في قرطبة وكان ذهب إليه لأداء الصلاة مع ابنه عبد الله الذي كان من أعظم عمال تلك المدينة ونفي إلى مدينة لوسنا اليهودية. وفي غضون ذلك صدر أمر من المنصور يحظر فيه على مراكش وإسبانيا درس الفلسفة المضرة والعلوم وما يتعلق بها ولم يستثن من هذا الحظر إلا الطب والحساب ومبادئ الفلك. وعهد بتنفيذ أمره إلى ابن أخت ابن زهر وكان فيلسوفاً كخاله فصدع بالأمر والخوف رائده. ثم إن ابن رشد نال الرضا من سلطانه قبل موته بأربع سنين وعاد المنصور يتوفر على دراسة ما كان يحظره على أمته من العلوم ولكن بعد أن ضربت الفلسفة الإسبانية العربية ضربة لا يجبر كسرها.
وإذ طردت العلوم الإسلامية من بغداد ومراكش وإسبانيا لم يبق لها غير مصدر واحد تلجأ إليه في طليطلة حيث طلبت حماية الدول المسيحية التي هي ألد أعدائها وكان سبقها إلى تلك العاصمة كثير من المسيحيين والإسرائيليين من أهل الأندلس فزعوا إليها لتحمي