كنت في لبنان أشبه بأبي زيد السروجي أو أبي الفتح الأسكندري احتاج إلى رواية مثل الحارث بن همام أو عيسى بن هشام يروي كلٌ منهما لمثل الحريري أو بديع الزمان تلك المظاهر التي اضطرت إلى الظهور فيها لانجو من مخالب عدو ممازق أو جاسوس مخادع وليتيسر لي درس حالة البلاد بدون حجاب.
فقد قيل اكتم ذهابك ومذهبك وذهبك ولكن القاعدة لا يرضاها منك اللبنانيون الأذكياء فتجدهم يحرصون كل الحرص عَلَى استطلاع طلع كل مصطاف بينهم أو سائح في جبالهم والوقوف عَلَى مقصده ومبلغ ثروته والدين الذي يدين به. وربما كان سؤالهم عن الأخير قبل كل شيء لأن عامتهم متدينون جداً فهم يسرون إذا شعروا أنهم يتعارفون إلى رجل يشاكلهم في المعتقد. وأنيَّ لمن قضى عليه شدة إخلاصه في خدمة وطنه ودولته أن يصرح لهم بهويته وهو مشرّد طريد محكوم عليه بالجناية حكماً قره قوشياً!
ودعني رفيقي غداة وصلنا إلى جزين وعاد إلى الفيحاء وبقيت وحدي لا ريق لي إلا كتابي وفرسي. فانقلبت لساعتي من جزين قاصداً دير القمر فاجتزت إليها تاتر وعماطور والمختارة وغيرها والطريق بين هذه القرى القديمة عامرة من وراء الغابة تمشي فيه وسط أشجار الزيتون وهي غابات غبياء في الشوف كما أن أشجار الصنوبر كذلك في قضاء المتن. ودير القمر هو مركز الجبل القديم وصلت إليه قبيل الغروب وقد بدت القصبة بأبنيتها الشاهقة كالعروس في حليها وعكست شمس الأصيل على زجاج نوافذها وسطوحها فاختلطت الحمرة بالصفرة بالخضرة بالزرقة فكان أجمل منظر تقع عليه عين إنسان. وأهل الدير كمعظم سكان الجبل موصوفون بالرقة وحسن العشرة يتحببون إلى الغريب كيف كانت حاله. وفي هذه القصبة إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه أحد أمراء لبنان ولا يزال الديريون يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة وإن لم يكن له من يقيم فيه الصلاة.
وقصبة الدير بكثرة سكانها وتوفر مرافق الحياة فيها أشبه بالمدن منها بالقرى وهي مشهورة بتجارة الحنطة تحمل إليها من حوران فتوزع في الأطراف. وليس دير القمر وحيداً في نوعه باكتظاظ الأقدام فيه فمدينة زحلة لا يقل سكانها عن خمسة وعشرين ألف نسمة