من ذاك الرأس المال القليل أما الأفراد الذين اغتنوا فعدت ثروتهم بالألوف فقد استوطنوا البلاد التي هاجروها جرياً على المثل العامي في المطرح الذي فيه ترزق الصق وهم إن كانت تحدثهم أنفسهم بالرجوع لا يهنأ لهم بال متى عادوا إذ يتجلى لهم الفرق الكبير بين نيويورك وشيكاغو وسان فرانسيسكو وبونس أيرس وسان باولو مثلاً وبين عشقوت وبسكنتا وعمشيت وعرنة ومعرونة أما أولادهم فينطبعون بطابع البلاد التي ولدوا فيها وأكثرهم لا يتعلمون اللغة العربية ولذلك لا يرجى البتة أن يعودوا إلى موطن آبائهم وهذا القسم ممن خسرتهم البلاد حقيقة والذي يزيد في الحسرة عليهم أن بعضهم ذهب برأس مال من بلاده ولو طفيف وبعضهم على جانب من الأخلاق والمعرفة لم يعمدوا إلى الطرق السافلة في تحصيل الثروة.
نفعت الهجرة لبنان وأضرته وعندي أن المضار أكثر من المنافع إذ لا يظهر إلى العيان في الغالب إلا الحسن. فقد يذهب ألف مهاجر مثلاً إلى بلد كذا ولا ينجح منهم إلا واحد أو اثنان فيأخذ الناس يتحدثون في أمرهما وينسون أولئك المئات الذين يعملون أربع عشرة ساعة كل يوم في أشق الأعمال ولا يكادون بعد مرور سنين يوفون أجرة الطريق التي استلفوها من أحد المرابين في بلدهم أو باعوا في الحصول عليها أرضاً لهم ورثوها من آبائهم خل عنك من هلكوا بالأمراض وغرها وهكذا الحال في مجموع حالة لبنان من حيث منافع الهجرة ومضارها.
فإن من نظر في الأمور نظراً سطحياً وشاهد تلك البيوت البديعة في قراه ومزارعه التي عمرت بمال أتى به المهاجرون من غير أرض لبنان وسمع بأن فلاناً أصبح يملك كذا وكذا من الليرات وأن بلد كذا يدخل إليه كل شهر من تحاويل أميركا ما يقدر بكذا من الذهب - من شاهد ذلك وسمعه لا يعتم أن تعروه هزة الفرح لبلاده وربما اعتقد أن الحال إذا دام على هذا المنوال وأموال أميركا لتسرب إلى بلادنا نصبح بعد بضع سنين أغنى من الأميركان وننقل شطراً عظيماً مما عندهم من الذهب الوهاج وهذا منتهى السعادة البشرية ليست السعادة بكثرة المال. السعادة شيءٌ غير ما يتوهمه من همهم إنشاء البيوت وتزيينها وفي باطنها الشقاء والحسرة. قال لي عجوز في صليما وقد سألتها أين رجالكم: ذهبوا ألى أميركا وتركونا هنا نحرس لهم البيوت التي عمروها لتسرح فيها الفيران عادوا ليجمعوا كمية أكبر