للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من المال لأن ما جمعوه لم يكفهم لإتمام هذه الدور على ما يحبون وفرشها ونقشها ثم إن حالة البلاد لم تعجبهم بعد أن شاهدوا مشاهد أميركا. وقول هذه العجوز الذي أحزنني مغزاه ولا تزال الأذن تردد صداه قد سمعت مثله من كثيرين من أهل لبنان رجال ونساء.

أي حسرة أعظم من أن تتوقع أمٌّ في كل أسبوع قدوم ابنها وقد تمضي الشهور ولا تتناول كتاباً منه أو زوجة تنتظر منذ سنين هي وأولادها وهو لا يكاد يبعث لهم بنفقتهم فتضطر تلك المرأة المسكينة أن تعمل ليلها ونهارها لتطعم أولادها من كدها وما هي بمفلحة. وأي بلوى أكبر من أن تدخل قرية وتجد فيها عشرات من البنات العوانس ينتظرن عروساً لأن شبان الضيعة هاجروا وأكثرهم لا يريد أن يتزوج وبعضهم تزوج من امرأة أميركية وزهد في أسرته وقريته لأنه تمدن بزعمه ولا يليق به أن يتزوج إلا من متمدنة. ومن شاهد البنات العوانس في لبنان يدرك سر تعدد الزوجات إلا في مثل هذه الحال ويسجل بأن أقل سيئات الهجرة انقطاع الأهلين عن التناسل ولولا ذلك لكثرت نفوس لبنان كثرة تذكر لطيب هوائه ومائه وتوفر أسباب الراحة فيه.

وإن دعوى من يدعون أن لبنان لولا الهجرة لأصبح خراباً مردودة من وجوه أحدها أنهم يعتقدون أن تلك الأموال التي دخلت لبنان وهي تستخدم فيه الآن بفوائد طفيفة هي غنى لبنان وما الثروة في الحقيقة إلا العمل ليس إلا. فقد رأينا اسبانيا على عهد شارلكان تسرب المال إلى صناديقها بالبدر والسبائك من أقطار المعمور لأن هذا الملك كان يعتقد أن كثرة النقود والذهب في بلاد كف وحده في غناها ولكن لم تكن بضعة عقود من السنسن حتى أمست اسبانيا أفقر بلاد أوربا لأن أهلها انقطعوا عن تعهد تربتها والأخذ بحظ من الصناعات اللازمة لهم والعلوم الرافعة من شأنهم.

إن انصراف وجهة اللبنانيين وغيرهم من السوريين إلى نزول أميركا وافريقية للاغتناء من خيراتها بسرعة على أمل العودة إلى مساقط رؤوسهم متى امتلأت أكياسهم وجيوبهم وعبابهم قد حال دون تعهد أرضهم واستثمار صناعاتهم. ففي لبنان من الخيرات الطبيعية ما يكفي أهله إذا زادوا ضعف ما هم الآن ومهما بلغت العناية اليوم بزراعته لا يزال فيه فضل للعمل وميدان واسع للجد. ولا يشعر بذلك إلا أرباب الأملاك. مثال ذلك أن كدنة الفلاحة كانت تساوي منذ سنوات قليله خمسة وعشرين قرشاً فأصبحت اليوم تساوي ستين