للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على أيدي غيرهم. وربما يعجب بعضهم الآن إذا قلنا له أن مبدأ نهوض اللغة العربية كان في مصر أيام محمد علي وقد صحت عزيمته على خدمتها مسوقاً بنابل من سلامة فطرته ودلالة بعض مستشاريه من أهل العلم من الفرنسيس فكان من أعماله الحليلة ما خلد له الفخر على الدهر وجعله من حيث خدمته للغة والعلم لا من حيث منازعه السياسية من أعاجيب الحكام في الشرق. والشرق أبو المعجزات والكرامات.

ليس من يجهل أن محمد علي كان أمياً أو يقرب من درجة الأمية. مات ولم يحسن التكلم بالعربية العامية لأنه كان ارناؤدياً ولم يخط سطراً واحداً لأنه تعلم في الكهولة مبادئ طفيفة من حسن الخط والقراءة فقط. ومع هذا فقد عني بما لم يعن به أحد من ملوك المتأخرين وشرع منذ استتب له أمر مصر يختار الأذكياء من أبنائها ممن قرؤوا الدروس الوسطى فيبعث بهم على نفقة الحكومة إلى أوربا ليخصوا في العلوم التي أولعوا بها حتى إذا عاد أحدهم وأتم تحصيله يحبسه عنده في قلعة الجبل ويخرج له كتاباً بالإفرنجية في الفن الذي أتقنه ويوعز إليه بأن لا يخرج من القلعة قبل أن يترجمه بالعربية ويأمر له بأسباب الراحة والمعينات على الترجمة والتأليف. فإذا ما انتهى الطالب من عمله يعرضه على أمير البلاد وهذا يدفعه بالطبع للعارفين من الناس أو إلى لجنة كانت معروفة إذ ذاك بلجنة الامتحان فبعد أن تنظر فيه ترخص بطبعه في المطبعة الأميرية ويغدق الأمير على المترجم أنواع الهبات ويشرع في ترقيته في المراتب إن كان ممن استعدوا للإدارة أو الجندية أو البحرية وإذا كان من الأساتذة يوسد إليه التدريس في بيوت العلم موسعاً عليه في الرزق ليتخرج به أبناء مصر. وهو عمل يذكرنا بما كان يأتيه المأمون العباسي من الأنعام على المترجمين ولكن ما يصدر عن المأمون وهو أعلم خليفة في الإسلام لا يستكثر منه وعصره شباب هذه الأمة بقدر ما يستكثر ما تم على يد محمد علي الأمي الألباني وعصره عصر شيخوخة الإسلام والمسلمين.

قال لي صديقي الدكتور عثمان بك غالب أحد حسنات مصر الذين نبغوا بفضل الطريقة التي اختطها محمد علي لمن يجيء بعده وشاهد تلك الحركة العلمية في إبانها ثم شاهدها في انحطاطها وهو يشهدها الآن في تجددها: لقد ظلت نهضتنا العلمية سائرة أحسن سر إلى سنة ١٨٨٢ فما بعدها وبدأ انقطاعها سنة ١٨٨٧ وقد قام بعدها رجل من أبناء مصر نفسها