للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن رسائل المتأخرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنجاح بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تستعين به ومن الأشعار والأخبار والسير والأسماء ما يتسع به منطقك، ويعذب به لسانك ويطول به قلمك، وانظر في كتب المقامات والخطب ومحاورات العرب ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وتوقيعاتهم وسيرهم ومكايدهم في حروبهم بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشروط ككتب السجلات والأمانات فإنه أول ما يحتاج إليه الكاتب وتمهر في نزع آي القرآن في مواضعها واجتلاب الأمثال في أماكنها واختراع الألفاظ الجزلة وقرض الشعر الجيد وعلم العروض، فإن تضمين المثل السائر والبيت الغابر مما يزين كتباتك ما لم تخاطب خليفة أو ملكاً جليل القدر فإن اجتلاب الشعر في كتب الخلفاء والجلة والرؤساء عيب واستهجان للكتب إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له فإن ذلك مما يزيد في أبهته ويدل على براعته، وإن شدوت من هذه العلوم ما لا يشغلك محله، وتنقبت من هذه الفنون ما تستعين به على إيطالة قلمك وتقويم أود بيانك.

بعد أن يكون الكاتب صحيح القريحة، حلو الشمائل، عذب الألفاظ، دقيق الفهم حسن القامة بعيداً عن الفدامة خفيف الروح، حاذق الحس، محنكاً بالتجربة، عالماً بحلال الكتاب والسنة وحراميهما، وبالملوك وسيرها وأيامها، وبالدهور في تقلبها وتداولها، مع براعة الأدب، وتأليف الأوصاف، ومشاكلة الاستعارة، وحسن الإشارة وشرح المعنى بمثله من القول حتى تنصب صوراً منطقية تعرب عن أنفسها، وتدل على أعيانها، لأن الحكماء قد شرطوا في صفات الكتاب طول القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهازم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب، وحلاوة الشمائل وملاحة الزي حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزيّ الكتاب فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.

وخاطب كلاً على قدر أبهته، وجلالته، وعلوه وارتفاعه، وتفطنه وانتباهه، واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام فأربعة منها للطبقة العلوية وأربعة دونها ولكل طبقة منها درجة ولكل قسمة حظ لا يتسع للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها، ويقلب معناها إلى غيرها فالطبقة العليا الخلافة التي أعلى الله شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسل، والطبقة الثانية الوزراء والكتاب الذي يخاطبون الخلفاء