للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وغير هذا فقد اسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بما صنعه ببني جزيمة لما أرسله داعياً لا محارباً فذهب إليهم وحاربهم وقتل وسبي منهم فبريء رسول الله من عمله إلى الله ولم يؤاخذه به وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية وقال والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم.

والشواهد عَلَى هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود والعقوبات المدنية كالسن بالسن والعين بالعين وأبدلت بها العقوبات الأدبية كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان أو لفشو المنكرات فشواً لم ينجع في تأديب مرتكبيها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الزمانية.

ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة أو مس لأصولها المقدسة مادام من أصولها وقواعدها أيضاً العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل ضرر منها والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة وقد سبق الله تعالى رسوله والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ وإنما تقرر حكم اقتضته مصلحة زمان وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة حمايتها وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة وقوي جماعة المسلمين وصاروا في مأمن من غائلة الضعف وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن.

وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:

(أولاً) ان القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.

(ثانياً) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد حفظها أو يتعذر عَلَى الواحد الإحاطة بها فاحتج في القضاء إلى استشارة حفاظها.