(ثالثاً) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة إما في تطبيق النص أو في مسوغ الحكم إذا كان اجتهادياً تثبتاً من وضع الشيء في محله جهد الإمكان.
(رابعاً) انهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية وفي أحوال مخصوصة تدعو إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداءً بالشارع.
(خامساً) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان يدعوهم إلى عدم الإنفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.
هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين أحداهما أن القضاء في الإسلام كان قضاء الجماعة لا قضاء الفرد والثانية أن الشريعة الإسلامية بما تقرر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان وتجيز لكل ضرورة حكماً يوافق مقتضى المصلحة والحال وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعاً أيضاً خلافاً لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضيقة توافق زماناً غير زماننا هذا ومكاناً غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة وحاجاتها سيراً تدريجياً في كل ما يقتضيه ترقي الجمعيات. ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وعدم الوقوف عَلَى أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب الفروع دون الأصول وردهم لكل ما لم يرد فيها من أسباب التيسير وإن ورد في أصول الشريعة وكلياتها من أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى دليل قطعي مالا يعدو سبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس ومع هذا فإنهم يفضلون العمل بهذه الأحكام عَلَى الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقيد والتضييق على أنفسهم والأمة ومهما ترتب عَلَى ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا بها الباحثون في طبائع الاجتماع.
وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد إذا فتح بابه وتطرق الفساد إلى الشريعة وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها عاقل لكن فيما ل صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.