هذه العلوم التي تدرس في مدرسة فرنسا ولا يستغرق الدرس منها ساعة يتلو في خلالها الأستاذ زبدة علمه وبحثه ولا يكثر المستمعون إلا في بعض الدروس التي رزق أستاذها فضل بيان وطلاقة لسان وأكثر الحضور غرباء أي غير فرنسويين وفيهم كثير من الفتيات طالبات العلم ممن قصدن فرنسا من ألمانيا وإنكلترا وروسيا والنمسا وإيطاليا وبلغاريا ورومانيا والصرب والسويد وأميركا ليغترفن من مدارس باريز ويحكمن لغتها الجميلة. فكأن أهل هذه العاصمة زهدن في حضور هذه الدروس المجانية وأزهد الناس في الرجل أهله وجيرانه. وإن دروساً يعد من جملة أساتذتها لفاسور وبول لوروا بوليو الاقتصاديين وماسبرو وغانو الأثريين وجوليان ومونو المؤرخين وبرجسون وريبو الفيلسوفين وغيرهم من الأئمة الأعلام لحرية بأن يستفيد منها كل طالب ويغترف من درر بحورها عاشق العلم.
وإن هذا المعهد ليولي فرنسا شرفاً ليس وراءه غاية ويدل على تفانيها في نشر المعارف والأخذ بأيدي القائمين عليها وينادي بلسان الحال والمقال على توالي العصور والأجيال أن فرنسا إذا هرمت في سياستها وأخلاقها فهي على الدهر فتية في جمال علمها وجدة حكمتها.
التجارة الباريزية
لم يكتف الفرنسويون بل الغربيون بما بلغوه من أسباب الراحة والرفاهية بل تراهم يعملون ليلهم ونهارهم لئلا يسبق بلد بلداً آخر أو مملكة مملكة أخرى كأن المنافسة التي هي من أعظم عوامل الارتقاء قد تحسمت في صدر الكبير والصغير من الإفرنج فكان من آثارها ما يبهرنا من تلك الحضارة الراقية والسعادة الشاملة.
رأيت روح الاجتماع مستحكمة في أعمال الأوروبيين فلا يكاد يأتي زمن قليل حتى تصبح جميع مشاريعهم وأعمالهم شركات وجمعيات ليخفى عمل الفرد ويظهر عمل الجماعة ويتراجع ضعف الواحد أمام قوة المجموع فقد ظهرت لتلك الأمم نتائج الاشتراك جماعة ظهوراً لا ينكره إلا من يكابر حسه ويغش نفسه فأنشأ من كانوا إلى الانفراد في متاجرهم ينضمون بعضهم إلى بعض ومن عاشوا بالوحدة يربحون ويخسرون فلا يدري بهم أحد عدلوا عن سالف طريقتهم واقتدى المتأخر بالمتقدم أو العناصر اللاتينية والسلافية بالعناصر الإنكليزية السكسونية.