قضيت شهرين اثنين في هذه العاصمة طفت المعاهد ورأيت المشاهد وعرفت العامل الجاهد وتبينت العالم المجاهد وطعمت الجشب والشهي من الطعام ووصلت السير بالسرى وعمل الليل بعمل النهار ورأيت العملة في حاناتهم ومطاعمهم وواكلت الأغنياء في مقاصفهم وشاركتهم في نعيمهم واختلطت بطبقاتهم أسمع عباراتهم ولم أستنكف من غشيان كل مكان أرجع منه بفائدة مستطلعاً طلع خلق جارياً من الاختبار فيه على عرق فكانت عيني تملّ النظر وأُذني تسأَم السماع وذهني يتأفف من التفكر وقلبي يتخوف كثرة الوعي. ومع ما صرفته من الوقت والقوة خرجت من هذه المدينة وفي النفس منها أشياء لم أتمكن من درس معالمها ومجاهلها من هذه أماكن الرياضات البدنية واللعب على اختلاف ضروبه وزيارة مجاري العاصمة تحت الأرض وسراديبها والاعتبار بقبورها ومدافنها وهي مزينة كقصور الأحياء ومقطعة إلى طرق ومناطق.
وفي يوم بدأ نهر السين بفيضانه المشؤوم الذي طغى على السدود والسكور فدكها وبثقها وأودى بالأموال الجسيمة من ناطق وصامت ركبت القطار وقت الظهر إلى الحدود الألمانية فكان نهر الموز والمارن هائجين حتى طغت مياههما على السهول والأودية ولم يصل القطار إلى نانسي على الحدود ويبلغ ستراسبورغ في أرض الألمان وقاعدة الألزاس إلا وقد انقلبت تلك الأمطار ثلوجاً وذاك الهدير سكوناً ولون تلك المياه الكدرة بلون الثلج الأبيض الناصع وبلغنا مونيخ عاصمة مملكة بافيرا الألمانية صباح الغد فوقف القطار زهاء ساعتين فرأيت أن لا أضيع الفرصة فأخذت أطوف المدينة ولكن كانت الثلوج غمرتها فلم أر منها إلا واجهات الأبنية ورؤوسها وهنا تمثل لي النقص وأحسستن بالعجز وشعرت بالغربة وأنا ألتفت عن يميني وشمالي فلا أسمع إلا الألمانية التي لا أعرف منها أكثر مما أعرف من الكردية وقد تركت بعض رفاق لي في القطار ومنهم بولونيون يتكلمون بالإفرنسية تطيب نفسي بمحادثتهم ومفاكهتهم حتى إذا عدت آخذ مكاني من القطار اجتاز بنا بعد قليل في أرض النمسا حتى وصلنا مساءَ اليوم الثاني إلى فيينا عاصمة النمسا.
وعلى ذكر اللغة لا بأس بأن أقول أنني يوم دخلت فرنسا لم أشهد وحشة ولم أشعر بغربة لمعرفتي بلسان أهلها واطلاعي على تاريخهم وعاداتهم فكنت كأنني داخل ولاية من