وفي مقالة عبرة الدهر دليل آخر على مذهب الخياليين وهو ذكره (صاحب القصر) بأنه فاسد الأخلاق وإغفاله البحث في أن يذكر عن نشأته الأولى شيئاً نتبين منه أن بين جنبيه نفساً ملؤها الرذائل. وكان عليه أن يصف (بلالاً) الخادم الذي جعله في موقف الحكم الحكيم وأنه من المبادئ العالية ما هو كيت وكيت وأن يذكر طرفاً من حنق زوجته وتلهفها على زوجها الذي كان يقضي الليالي الطوال وهو يداعب أزواج المحارم بمثل ما يداعب غيره زوجته. وهذا نقص كبير وخطأ فادح في الأسلوب. ولكن المنفلوطي كما أسلفنا لم يهتم في الحقيقة اهتمامه الزائد في أن تكون قصته جامعة لجمال الأسلوب الخيالي الذي ضمنه حكماً بالغة وعواطف شريفة بدون أن يتبين المواقف التي يقف فيها الرجل الغر الغمر موقف المرشد الحكيم.
ومما يستدل فيه أيضاً على تنكبه جانب الحقيقة سؤال (صاحب القصر)(بلالاً) في أي ساعة نحن من ساعات الليل فأجابه في الساعة الأولى ثم ذكر المؤلف أن الخادم لم يصل من الحديث إلى حد معين حتى نصل خضاب الليل واشتعل المبيض في مسوده على أن ذلك الحديث يذكر في بضع دقائق لي إلا. . .
هذا نموذج مما ذكره المنفلوطي من الفصول القصصية ومن تشريح أسلوبه يعلم أنه احتذى مثال (الخياليين) في إنشائه. وكل من تتبع الحركة الأدبية في المشرق يعلم أنها مسوقة نحو الكمال بحكم ناموس النشوء والارتقاء وإن كتاب المنفلوطي هذا هي إحدى الحلقات من سلاسل الآداب التي لا يتم البحث بدونها.
وإنا نودع باستقباله ما ضمنه من أسلوب جديد وتشبيه رائق واستعارات فخمة ذلك الأسلوب الخيالي المحض في كتاب كليلة ودمنة وهو من تاريخ آداب المشرق بمثابة لافونتين من آداب المغرب كما أن غيرنا ودع بما عربه عبد الله بن المقفع كتاب ألف ليلة وليلة وأقاصيص عنترة الممزوجة بالأبطال الخياليين مما كان بها وبأمثالها بدءُ نهضتنا الأدبية القصصية كما كانت الإلياذة باكورة نهضة الغرب في الآداب وفاتحة رقيهم وتقدمهم.
وجدير بكبار أدبائنا العاملين وهم يبرون الغرب كل يوم يخطو خطوات واسعة نحو الحقائق أن يقتفوا آثار مذهب الحقيقيين بإطراحهم مهب الخياليين جانباً وأن يطيلوا الفكر والتنقيب فيستبدلوا الأحياء بالأموات ويستعيضوا بالأرواح عن الأشباح وكفى.