أثاث ورياش ثم يذكر الخلق وأجسامهم وما يلبسون ويكتسون من أردية حتى أنه يرسم خطوطهم الجبهية وأخيراً ينفخ فيهم من روح الحقيقة فينطقون ويتحركون.
هذه هي الطريقة العلمية التي ينحو منحاها العلماء والعقلاء من كتاب أوربا في التاريخ والأدب ولا يهمهم ما يكتبون سوى أنهم يمثلون الحقيقة للقراء عارية بأبشع وأشنع مظاهرها غير هيابين ولا وجلين. وثمة من المذاهب ما كنت أود أن آتي علي ذكره هنا لولا أني توخيت في هذه النظرة الايجاز مثل المذهب الرمزي (سنبوليزم) والمذهب الفني (كلاسيسيزم) وغيره من المذاهب.
وبعد فلم تقدم بين يدي القارئ هذه المقدمة التي نرجو أن نكون ألممنا فيها بطرف من مذاهب الكتاب إلا لنستطيع أن نحكم على بعض فصول النظرات القصصية ونضعها في المحل الذي يجب أن تحل فيه بين هذه المذاهب كلها.
لا جرم في أن الناظر في هذا السفر والمطلع على هذه المذاهب يعلم أن المنفلوطي جرى في كتابه مجرى الخياليين وأنه يجمع بين هؤلاء ومذهب المفكرين في الأحايين. فهذه مقالته الكأس الأولى وعبرة الدهر يتجلى فيها الخيال بأحفل مظاهره. فقد سمع صوت المؤلف في الأولى عند قوله: وما كان له وهو يهيم الخ. . . وكذلك عند قوله فيها: والمنظر المتكرر لا يلفت النظر ولا يشغل الذهن. وقد أورد على لسان الشخص المريض الشاخص ببصره إلى السماء_ذلك الرجل الذي لم يبق منه إلا إهابٍ ممزق_حديثاً لا قدرة لأصحاب الأجسام على إيراده في مثل تلك الحال وقصد المنفلوطي أن يبين سبب الإدمان على الخمر فجعل ذلك بلسان المريض ذاكراً أن كل كأس شربها جرتها عليه الكأس الأولى وأن ليس الباعث على ذلك غير قصور عقله عن إدراك خداع الخلطاء وبين أن الخونة الكاذبين خدعوه عن نفسه خداعاً ليستكملوا بانضمامه إليهم لذاتهم التي لا تتم إلا بقراع الكؤوس وضوضاء الاجتماع ثم عاد المنفلوطي وأظهر شخصيته فقال: ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه وأي ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك لتحقق أنه أبله إلى النهاية من البلاهة وضعيف إلى الغاية من الضعف وقد حكم عليه بالبلاهة ولم يذكر عن تربيته ما يفهم منه أنه على غرارة وسذاجة بل الذي تبين أنه كان صديق المؤلف وارتباطه بالصداقة يقضي بأن يكون فيما أحسب على غير ما ذكر.