يدلك على هذا أيضاً ما تقرأه له أيضاً في مقالة الشعر البيضاء ويعني بها شعرة المشيب التي رآها تلوح في فوده فخاطبها مؤنباً إياها بأنها تدني له الموت وبالغ في تأنيبها وتعنيفها، وأغرق في عتبها ولومها ثم رجع بعد ذلك لنفسه وكأنه ندم على ما فرط منه بجنبها وأخذ يخاطبها قائلاً: ما الذي يحمله في صدرك لك من الحقد والموجدة رجل لم ينعم بشبابه فيحزن على ذهابه، ولم يذق حلاوة الحياة فيجزع لمرارة الممات ولم يستنشق نسمات السعادة غضاً رطباً فيأسى عليها عوداً يابساً.
ما الذي ينقمه عليك من الشؤون رجل يعلم أنك وحي الأمل الذي يبشره بقرب النجاة من حياة ليس فيها من السعادة والهناء إلا لمحات قليلة يكدرها ما يحيط بها من الهموم والأكدار كما تكدر أنفاس الحزن الحارة صفحة المرآة.
أليس كل ما أعده إليك من الذنوب أنك طليعة الموت الذي يخلصني من منظر هذا العالم المملوء بالشرور والآثام، الحافل بالآلام والأسقام، الذي لا أغمض عيني فيه إلا لأفتحها على صديق يغدر صديقه وأخ يخون أخاه وعشير يحدد أنيابه ليمضغ عشيره، وغني يضن على الفقير بفتات مائدته وفقير يقترح على الدهر حتى بلغة الموت فلا يظفر بأمنيته وملك لا يفرق بين رعيته وماشيته، ومملوك لا يميز بين ملك الملك وربوبيته ونفوس تتفانى قتلاً على لون حائل، وظل زائل، وغرض سافل، وعيش باطل وعقول تتهالك وجداً على نار تحرقها، وأنياب تمزقها وعيون حائرة في رؤوس طائرة تنظر ولا ترى شيئاً مما حولها، وتلمع ولا تكاد تبصر ما تحتها.
هكذا رأينا المنفلوطي يرمي هذا العالم بنظرات كلها شؤم كما هو شأن جماعة المتشائمين في عامة شؤونهم وأطوارهم وأحوالهم. ولولا أنه لا يقول إلا ما يعتقده ولا يعتقد إلا ما