ومن جاء بعده من الخلفاء، أن انتشروا في الأرض فأخذوا على جعلها أسليب الحضارة. ثم احتاجوا إلى التبسط في الكتابة، لاتساع الملك واستبحار العمران فكتبوا في العراق على الحرير وسموه بالمهراق. وكتبوا في مصر على البردي ولا تزال آثاره باقية في أوربا وبعضها في القاهرة في دار الكتب الخديوية. وكانوا يكتبون على هذا البردي باللغة العربية وحدها تارة، ومصحوبة بالترجمة الرومية أو القبطية تارة أخرى. ولا تزال هذه سنة مطردة في ديارنا، أعني بها سنة الاحتياج إلى لغتين مثال ذلك: الأحجار وأوراق البردي في عهد اليونان، نراها مكتوبة بلغتهم وباللسان المصري القديم، وفي عهد الرومان حل اللسان اللاتيني محل اليوناني. حتى جاء العرب فكان من شأنهم ما ذكرنا. ثم انقضت مدة طويلة من أيام المأمون إلى آخر الدولة الأيوبية استقل فيها اللسان العربي. حتى جاءت دولتا المماليك البحرية والجركسية فاندمجت في اللغة العربية بعض ألفاظ واصطلاحات دخيلة من التركية. ثم جاءت دولة العثمانيين فكانت السيادة في مصر للمماليك الأتراك حينئذ طما بحر اللغة التركية وصارت تزاحم لغة البلاد. واستمر الحال على ذلك بعد جلوس الفرد الفذ الأعظم محمد علي نابغة العصر الجديد إلى أيام سعيد وبعد ذلك بدأت الفرنساوية تحل قليلاً محل التركية. وها هي الآن تتأخر في الميدان أمام الإنكليزية. والحق يقال أن لغة البلاد أخذت في الانتعاش كثيراً بفضل خديوينا المحبوب عباس الثاني وبفضل حكومته الرشيدة السعيدة. وبفضل المحاكم والجرائد سترون عما قليل حسنة جليلة من أكبر محاسن الحكومة الحاضرة يرفع بها منار هذا اللسان وتتجدد معها آداب العرب وعلومهم.
نرجع إلى الكتابة والكتب ونقول أن العرب ما عتموا أن استخدموا الجلود بعد ترقيقها وكان من مزاياها عندهم أنهم كانوا يغسلونها ويجددون الكتابة عليها. فرأوا أن ذلك إن كان صالحاً في بعض المعاملات الوقتية ففيه ضرر كبير على العلم كما رأوا من جهة أخرى أن الحرير يدعو إلى مئونة كبيرة مع أن الحاجة ماسة إلى الإكثار منه ومن الرق بل رأوا في أيام هارون الرشيد أنهم مقلدين لغيرهم من الأمم وإن ما وصلوا إليه من الحضارة والرجحان يوجب عليهم الأخذ بأسباب الاختراع والاستنباط. فكانوا أول من اصطنع الورق على هذا الشكل الباقي إلى أيامنا هذه وحسبهم ذلك فخاراً. وقد سموه بالكاغد ثم بالقرطاس ثم شاع اسم الورق وانتشرت معامل الورق من الخرقة أي من الكهنة في سمرقند وبغداد