والقاهرة ودمياط ثم انتقل إلى بلاد الغرب فكان لهذه الصناعة شأن كبير في بلاد الأندلس واشتهرت مدينة شاطبة بمعاملها ومصانعها التي فاقت في الجودة والإحسان والإتقان واربت على ما بلغه أهل المشرق من هذا الباب ومن شاطبة كان الكاغد يحمل إلى سائر بلاد الأندلس. ومن هناك انتقل إلى أفرنجة (فرنسا) ثم إلى بقية ديار أوربا وقد ابلغه القوم في هذه الأيام إلى نهايات ما يخطر بالأحلام وأتوا في ذلك بالعجب العجاب حتى صاروا يصنعونه من الأخشاب وانعدمت هذه الصناعة من ديار المشرق كلها فصار عالة على غيره فيها وفي غيرها.
حينئذ توفرت عند العرب الأسباب المادية والعقلية فأبدعوا في التصنيف وأغربوا في التأليف وتهافتوا على جمع الكتب وتطلبها وتساوى في ذلك السلطان والسوقة والخاصة والعامة والرجال والنساء وجميع الطبقات حتى كثرت دور الكتب في القاهرة وأمهات المدائن المصرية بدرجة لا تتصورها الآن لأن بلادنا أصبحت خلواً منها بالمرة لولا تلك الصمامة القليلة الباقية في دار الكتب الخديوية وفي الأزهر الشريف تتلوها المكتبة الحديثة التي أنشأتها البلدية في الإسكندرية. أما البيوتات فقد أصبح عددها أقل من أصابع اليد الواحدة وأولها بيت السادات يتلوها بيت البكري فبيت المرحوم رفعة وعبد الله فكري. وأما الأفراد فقد قلب النظر فلم أر غير المرحوم لطيف باشا سليم وبعده الفاضل أحمد بك تيمور.
وقد أردت أن أجري على هذا المنوال وإن كانت خطواتي صغيرة ويدي قصيرة ولكني خشيت أن تذهب مجموعتي من بعد للعطار والزيات والبقال أو تتفرق شذر مذر كما حصل للمجموعة النفيسة التي كانت تزدان بها دار المرحوم علي مبارك باشا في حياته. لذلك جعلتها من الآن خاصة بالأمة ولا أزال دائباً إلى آخر ساعة من حياتي على توسيع نطاقها والزيادة فيها.
إذا رجعنا ببصرنا إلى التاريخ رأيناه يحدثنا عن دور الكتب في القاهرة فتأخذنا لوعة لمجرد هذا الوصف وتبكي على ذهاب العين والأثر.
فدور الكتب التي أسسها الفواطم يحدثنا المقريزي عنها بما يثير الأشجان ويستمطر الدموع من الآماق. فقد كان في قصر الخلافة وحده أربعون خزانة كانت فيها النوادر والذخائر فأخذ معظمها بعض الموظفين وبعض الأجناد الأتراك بدل مرتباتهم في أيام الشدة التي وقعت