ومع كل ذلك نرى أثراً من تلك الآثار المتباينة في طراز هندستها وقدمها على نسق الأبنية الرومانية ذات العقود والقناطر قائماً على يمين الحمة بمسافة عشرات من الخطوات وهو أحدث الآثار الباقية المتداعية الأركان.
وإذا أمعنا النظر في هذه الآثار ندرك أنه ليس للكنعانيين والآراميين من صنعة فيها وربما أقاموا في ذلك المكان حيناً من الدهر حتى داهمتهم الحمم الصادرة عن جوف الأرض إبان ثورانها فأزهقت نفوسهم ودفنت مساكنهم إذ يبصر المرء هنالك آثاراً طامسة تغشاها الحمم والأنقاض الدالة على الثوران في غابر الزمان.
وهنا لم يبق لدينا سوى تينك الأمتين السلوقية والتدمرية ولا مناص من نسبة هذا الحمام وما يجاوره من الأنقاض إلى إحداهما أو إلى كليتيهما لأن الأمة السلوقية كانت ربة علم وفلسفة لا يفوتها استخدام مثل هذا البخار للمنافع الصحية وكذلك الأمة التدمرية على ما نعرفه ويعرفه الخاص والعام فإن لنا في مدينتها العظمى شاهداً عدلاً على ما بلغته في الصناعات والترقي في الفنون وناهيك بأعمدتها الباسقة التي كانت تجري من فوقها الأنهار فأمة مثل هذه لا يعوقها جعل بركان قريب لعاصمتها حماماً يزيل ما في الأبدان من الأوجاع والأوصاب.
فكلتا الأمتين كان لهما في حلبة المعارف أفكار سامية وفي مضمار الرقي عقول نيرة ثم دالت دولتهما وهما ينشدان:
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
أي لعمر الحق أنها لأثار تدل على ما كان لهم من اليد الطولى في الفنون الجميلة والصناعات البديعة كما أن قيام هذا الحمام ليس عن عبث أو سائقة طبيعية بل عن علم صحيح وعقل رجيح فإذا حققت النظر في مبانيه الخربة وجدت أنها كانت في عهدها الزائل مستوفاة الشروط الطبية داخلاً وخارجاً مما نعجز نحن أبناء القرن العشرين عن الافتكار بمثله ولو بعد حين.
وفوق كل هذا إنني أرجح نسبة هذه الآثار إلى التدمريين لمشابهة أنقاضها لأنقاض مدينة تدمر وقربها منها ولما يتواتر على السنة الأهلين في تلك الأنحاء من أن هنالك ساقية قديمة تنتهي إلى المدينة المذكورة.