كلاماً يدل على العقل الواسع والعلم النافع وحسن المأتى ولطف الأداء وقد يورد في أكثر الفصول قصصاً تروق العامة والخاصة معاً. نسق تأليفه تنسيقاً عجيباً لم يخل به من أوله إلى آخره حتى جاءت المطالب كلها متساوية بالحجم والفائدة آخذة من الحسن والإحسان بنصيب وافر. فجودة الأسلوب التي عرفت بها مصنفات الإفرنج لعهدنا تجدها على أتمها في المجودين للتأليف في عصور الارتقاء الإسلامي وهذا الكتاب نموذج صالح منها.
وإليك الآن مثالاً من عبارة المؤلف تستدل منها عل مبلغه من الحذق والعلم والبيان. قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره صحيح الاعتبار في صباه حسن العفة عند إدراكه رضي الشمائل في شبابه ذا الرأي والحزم في كهولته يضع نفسه دون غايته برتوه (خطوة) ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها لأن من جاوز الغاية في كل شيءٍ صار إلى النقص ولا ينفع العقل إلا بالاستعمال كما لا تتم الف٥رصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير أخاف أن يكون حتفه أقرب الأشياء إليه. ورأس العقل المعرفة بما يمكن أن يكون كونه قبل أن يكون والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة فإنها اسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك وكثرة التمني وسوء التثبت. لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق ولا يسعى إلا لما يدرك ولا يعد إلا بما يقدر عليه ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعه منه والعاقل يبذل لصديقه نفسه وماله ولمعرفته رفده ومحضره ولعدوه عدله وبره وللعامة بشره وتحيته ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنماً إلا أن يغلبه الاضطرار عليه ولا يدعي ما يحسن من العلم لأن فضائل الرجال ليست ما أدعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم ولا يبالي ما فاته من حطام الدنيا مع ما رزق من الحظ في العقل. أنشدني عبد الرحمن ابن محمد المقاتلي:
فمن كان ذا عقل ولم يك ذا غنى ... يكون كذي رجل وليست له نعل
ومن كان ذا مال ولم يك ذا حجى ... يكون كذي نعل وليست له رجل
قال أبو حاتم: كفى بالعاقل فضلاً وإن عدم المال بأن تصرف أعماله إلى المحاسن فتجعل البلادة منه علماً والمكر عقلاً والهذر بلاغة والحدة ذكاء والعيُّ صمتاً والعقوبة تأديباً