للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الرابع وهو منتهى كماله حسب توزع الطير في الجو لمخافته. وتفرق الوحش في البر لمهابته. وصارت هي السهم لأنه في أثرها. ولفظته عن القنيصة هي القضاء لأنه في خبرها.

وما يكن من عيب في الشاعر فلن تجد فيه كتسلط فكره عليه وعبثه بقوافيه فتراه ينظم الكلمة أبياتاً لا معرفة بين أولها وآخرها ثم يجيء بعد جفاف الريق وتخلخل اللسان وانقطاع النفس فيمضي فيها اختياره ويأخذ في التوفيق بينها وهي متنافرة. ويعمل على التعريف وهي لا تزال متناكرة. فمثل الكثير من هذا الشعر مثل الكلمة المفردة إذا نطقت بجملتها أدت إليك معناها على أتم ما يكون فإذا فككت أحرفها ولفظتها حرفاً حرفاً انقلبت إلى قول هراء. ولم تزد على أن تكون أصواتاً ذاهبة في الهواء. وأولئك هم الذين قال في شعرهم ابن ميادة أنه كلفة وتملح.

فإذا لم يكن فكر الشاعر عند إرادته ولم تكن إرادته عند اتجاه عواطفه أخذت عليه منافذ القول فاختل. واضطربت جهات رأيه فانحل. وصار من نضوب المادة في أخره أمره كمن يكتب بقلم ليس عليه إلا مسحة من ردع المداد فكلما كدَّه جمد. وكلما هزَّه ركد. فإذا كتب مع ذلك جاء الحرف مفرق الجهات لئيماً في الحروف فلا هو كتابة ولا هو محو.

ولقد يحار المرء إذا نظر في شعر العرب ورأى الكثير منه لا يتعدى الوزن والتقفية ولكن أكبر حظ القوم من شعرهم أن ينقلوا الكلام إلى نمط يتفق مع النغم كما ترى في غناء هذه الأيام فهو لا يزيد عن سائر الكلام إلا النمط والإيقاع بحيث أنك لو سمعته وقد جرد من ألحانه لخرجت منه على حساب ما دخلت فيه لا طرب ولا عجب.

والغناء على أي وجوهه ينقل النفس من تنقيبها بين الألفاظ عما هو حسن وغير حسن إلى تحركها على الألفاظ نفسها. وإنما النظم العربي أوزان موسيقية. فكل من جاء بعد العرب من الشعراء لا ينظر إلا في أعطاف اللفظ وتلاحم الكلمات وانتظام تلك المعاني القديمة فهو من الجاهلية الثانية وإن كان الأولون قد سموا جاهلية لعبادة الأوثان. فهؤلاء لعبادة الأوزان.

ويكاد شعر العرب ينحصر في غرضين الشاهد والمثل فقد كانوا لا يطلبون من الشعر غيرهما كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات. وكان أبدع ما يروج عنهم من أجل ذلك مساق الخبر ومضرب المثل ومقطع الحكمة. والحكيم فيهم يومئذ نبي.