ومن هنا تجد مثار الخلاف بينهم في قولهم هذا أشعر الناس في كذا وذلك أشعر الشعراء وغيرهما أشعر الإنس والجن. وهلم جرا
وما عدا ذلك ففي شعرهم من الطرف المستنكرة ما بغلط على الطبع ويثقل على الذوق فمنهم من يشبه وجه الحسناء ببيضة النعام. ومنهم من يشبه جسمه الناحل بأشلاء اللجام. . . إلى غير هذا مما تهجنه الحضارة ولهم مع ذلك وجه عذر فيه ومنفسخ للوم عنه. وإنما ذكرناه مأخذاً أكثرها صدأ الركاكة وغبار القدم. . . فتراجع الشعر بينهم وتعطلت قرائحهم حتى أصبحوا في اتصالهم بمتن أولئك الشعراء كما شبه أبو هفان شعر آل أبي حفصة الذين كان آخر شعرائهم متوج وكان رجلاً ساقطاً وذلك في قوله:(شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته ثم يفتر ثم يبرد. وكذا كانت أشعارهم إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد. . .).
وأعجب شيءٍ رأيته في تاريخ الشعر أنه كان عصرٌ يسمون فيه المولد (بالرقيق) ثم صار هذا الاسم علماً بالغلبة وأطلق على الغزل السبط والرثاء السائل ثم عدوا منه أنواعاً عرفوها (بالألفاظ الملوكية) وأجروها في بعض التشبيهات والأوصاف وما إليها. كأن الشعر كان مقضياً عليه أن يبقى في الموتى حتى يموت الأحياء. وأن يكون أهله نصباً على جانبي تلك البطحاء التي كان فيها شعراء الجاهلية. . . وحسبك أن أعداء ابن المعتز لم يزروا على غير نحته وسبكه ولم يحاولوا إسقاطه إلا من بينهما وهو بالإجماع في السطح من طبقات الشعراء.
ومنتهى الحمق أن يتخذ مولد ذلك النمط الجاهلي فإن السر في بقاء شعر الجاهلية والمخضرمين بعد أهله حاجة الرواة والعلماء إلى الشاهد منه فلما أسقطوا الاستشهاد بكلام المولدين لما يدخل عليهم من الغلط ولضعف الثقة بلغتهم سقطت هذه الطبقة بعلة طبيعية وهي سنة (بقاء الأنسب).
والعرب إنما ابتدأت الشعر بما كان عندها من جزالة اللفظ وإتقان بنية القريض وأحكام عرض القافية ونحوها مما هو طبيعة فيهم فكان على من يخلفهم أن يأخذ في زخرف البناء وزينته بعد أن يكون قد تم منه ما لم يتم وهو الذي فعله أبو تمام والمتنبي ومن في طبقتهما من أهل القوة والكفاية ثم كان على من يجيء بعد هؤلاء أن يزيدوا من تحف عصورهم