ومدنيتها طبقة بعد طبقة حتى يكون ذلك المرضع ديواناً للتاريخ ترتب فيه العصور. وتقف على أبوابه الدهور. ولكنا نجد إلى عهدنا طوائف تنقض ذلك البناء وتقيم على أساه فلا يلبث أن يقع الاثنان معاً.
والشعر أقسام كانت محدودة على ما نوعها أبو تمام في حماسته ثم جاء من تفنن فيها وذهب كل مذهب كابن أبي الإصبع وغيره. وقرأت أن البديع الأسطر لأبي رتب ديوان ابن حجاج على مائة وأربعين باباً وواحد. ثم قفي كل باب وجعله في فن من فنون شعر الرجل.
ولكن الذي قطع بالشعر العربي دونه إنما هو النوع الذي يسميه الإفرنج بالشعر القصصي ومنه الملاحم الكبرى عندهم كالإلياذة وغيرها. والبسيط منه نادر في العربية بل هو في بسطتها كالظل شيء كلا شيء.
ذلك لأن الشعر العربي روح هذه اللغة وهو من اللطافة بحيث لا يضيء فيه المعنى إلا بشعاع من الخيال. فإذا أردت أن تقيم منه حديثاً سويَّ التركيب. كامل الترتيب. زوت عليك القافية وتقطع الشعر فلا تدري من أين تأخذ ولا من أين تدع. كالنور اللطيف تحاول أن تلقي عليه كثافة الغطاء فإذا هو منبسط فوق ما تلقي فمهما تأت من ذلك لا تكون قد صنعت شيئاً.
ورأس هذا الأمر عندنا على ما يقول شبيب بن شبة حظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت فلا بد لهذا النوع في لغتنا من وضع جديد يكون وسطاً بين النثر والنظم حتى يحمل الألفاظ والمعاني معاً فيتعلق فيه الشعر بالنفس ويمتد السباق على النفس كما فعل الأندلسيون في وضع الموشحات لحاجتهم التي بعثتهم عليها والعصر يومئذ لهو وترف. والأدب مجد وشرف.
وأساس هذا الشعر سلامة الذوق فهي الحاسة التي تتجه بها النفس إلى المعاني وتنقلب عنها. بل هي العين المركبة في الروح تجمع جمال الطبيعة في نظرة واحدة فتنقله إلى الإحساس كما تمد العين الباصرة بمرئياتها وهي المخيلة. ومن الشعراء من يكون سقيم الذوق فهو في نظره إلى الشعر مع فساد ذوقه كاللص في نظرته إلى الحسناء إذا وسوس حليها في وسمعه. يغفل منها عما ينتبه إليه الناس وينتبه لما يغفلون عنه.
ومن هؤلاء طائفة الشعراء المصنعين وهم الذين لاحظ لهم إلا في (الصنعة الشعرية)