وفنونها لا تعد فيجيئون بالقصيدة كلها رقع ثم يتنافسون في هذا التصدير ولا يدرون أن الثوب الساذج من قطعة واحدة خير من هذه الرقع كلها وإن كانت من أنفس الخز والديباج وانظر ما يكون موقع هذا الثقل من الأدباء فقد أراد ديك الجن الشاعر مرة أن يهول على دعبل ويقرع سمعه فأنشده بيتاً مضطرباً. . . فقال له دعبل اسكت فو الله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك أو تشكيت دماغك. ولكأني بك في جهنم تخاطب الزبانية أو تخبطك الشيطان من المس.
والعلة الطبيعية في بؤس الشعراء هي ذلك الإحساس المتصل بالنفس فكلما غمزته المؤثرات تحول منه بمقدار الضغط بخار روحاني ينتشر حولها وذلك هو الشعر. وقد ترى النفس فيه ضوءً كأنه تبسم القلب الحزين الذي تشابه جلال الطبيعة بجلاله. لأنها مخلوقة في رأي النفس على مثاله.
وقد يكون للشاعر متسع في غلوه وكبريائه على هذه الطبيعة إلا في العواطف التي هي روابط القلوب بالقلوب. وموضع الصلة بين ما في الوجود وما وراء الغيوب. فقد يضرب في كلامه بسيف لم يطبع. ويرمي بقذيفة لم تصنع. ويقطع من خيوط الحياة ما لم يقطع ولكنه فيما دون ذلك لا يقدر أن يذكر الحب من قلب لم يحب. ويثبت للشيء الذي لم يجر عليه حكم الوجوب شيئاً مما يجب. فإذا هو فعل أطفأت الطبيعة من روائه. وقامت عواطف الناس شاهدة على كذبه في ادعائه. وقد ذكروا أن كسرى سمع الأعشى يتغنى ذات يوم بقوله:
أرقتُ وما هذا السهادُ المؤرقُ ... وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ معشقُ
فقال ما يقول هذا العربي؟ قالوا يتغنى بالعربية فأمر أن يفسروا قوله فقالوا زعم أنه سهر من غير مرضٍ ولا عشق. فقال هذا إذا لص. . .؟
وللشعر أساليب تنتجها القرائح ولكن جماع القول فيها أنها تمثيل للطبيعة فكأن الشاعر ينقل مناظر الأرض إلى الروح العالية التي ترسل إلى الجسم شعاع الحياة فتزيد تلك المناظر في قوة الشعاع الإلهي فلا يتصل بالجسم حتى تفيض هذه القوة على القلب فتهزه الهزة التي نعزف منها الطرب.
فأي امرئ اجتمعت له قوة التمثيل وسلامة الذوق وهما يكونان عند سعة العقل وسمو الطبع