مدرستها دخل دار الفنون في باريس فامتاز فيها بعصيانه للقوة الرسمية الحاكمة واحترامه الشديد للكمال الخلقي والفكري وثباته الراسخ في توخي غايته ولم يطل مكثه فيها سوى سنتين رأس بعدهما احتجاجاً على أساتذتها آل إلى إخراجه من المدرسة فعاد إلى موطنه حتى كانت سنة ١٨١٦ فأمَّ باريس غير مكترث باعتراض والديه الشديد وأقام فيها يحصل قوته بإلقاء دروس خاصة في الرياضيات وجعل همه تحدي بنيامين فرانكلين الذي كان يدعوه سقراط زمانه في معيشته على أنه امتاز عن جميع الفلاسفة بصلابة العزم والثبات على مبدأه فلم تلوه عنه حياة تبكي تعاسة وشقاء.
وضاق به العيش في باريس فحثته النفس بالهجرة إلى أميركا وكان على وشك أن يؤمها لولا صديق ثنى عزمه عن المهاجرة بجملة أوردها في عرض حديث تجاذبا أطرافه عن الفكر العملي في العالم الجديد فقال له صديقه ان لا كرنج (رياضي فرنساوي شهير) لو ذهب إلى أميركا لم يجد عملاً يقوم بأوده سوى مسح الأرضين. فعدل كونت عن السفر وأقام في باريس يعالج الحياة المرة ويتبلغ بثمانين ليرة يتقاضاها راتباً سنوياً من إحدى المدارس التي انتدبه لتعليم الرياضيات حتى سعى له أصدقاؤه بوظيفة تدريس في دار المسيو كازيميريه المشهور فدخلها ووجد هناك أسباب الراحة والهناء غير أن المعيشة لم ترقه لحنينه إلى الحرية التي أضاعها فلم يستقر به المقام أكثر من ثلاثة أسابيع ودع بعدها مضيفيه وعاد إلى حاجته السابقة وقناعته الفطرية وقد يكون الفقر في الشبيبة داعية الشر إلا إذا كان الشاب الفقير متعلماً فتساعده الحاجة حينئذٍ على أن يكون أميل إلى الحقيقة منه إلى الخيال.
وسنة ١٨١٨ اتصل كوت بهنري دوسان سيمون ابن أخت الدوق دي سان سيمون المشهور وكان في عهده من كبار كتاب المذكرات السياسية فكان لهذا الاتصال تأثير شديد في نظريات كونت الفلسفية.
كان سان سيمون يوم لزمه كونت في الستين من عمره ولم يكن ذا شهرة طائرة غير أن غرابة حياته وأحواله الاجتماعية وأفكاره السياسية تستوقف الأنظار فقد قضى الرجل عمره ساعياً بما له من الملكة العقلية الرائعة لتطبيق خيالاته على حقائق الأشياء والتربية الفنية لم يكن لها أقل أثر في هذا الرجل لأنه لم ينشأ عليها ولا شعر بلزومها على أنه كان خبيراً