ولما انتهيت إليه كتب الفيلسوف هاجت فيه الخاصة التي عرف بها من عطفه الشديد على الرجال العظام ورثائه لشقائهم فنهض إلى مساعدته وطرق أبواب ثلاثة من أصدقائه هز أعطافهم لمساعدة الفيلسوف فتعهدوا بتقديم مائتي ليرة له سنوياً وكان ذلك سنة ١٨٤٥.
ولم يوفق كونت لعمل شيء يدل على شعوره بجميل الإنكليز فلما عاد إليهم ميل في السنة التالية أعطاه الأول مبلغاً زهيداً ورفض الاثنان الآخران مساعدته قائلين يجب على كونت أن يعول نفسه بنفسه فلما أخفق استيوارت في مساعدة صديقه بهذه الوسيلة أشار عليه بكتابة مقالات للصحف الإنكليزية وتعهد له بترجمتها فرضي كونت أولاً بهذا الطلب ثم عاد إلى هوسه واغتراره فأخذ يتهم الإنكليز بفساد الأخلاق مما أسخط استيوارت وباعد ما بين الصديقين حتى انتهى الأمر بانقطاع المراسلات. ومن كلام كونت في هذا الصدد قوله: لماذا يترك الرجل بعد موته مبلغاً من المال لمتفنن لم يعرفه وهو لا يعد مساعدة الرجال الذين عرفهم في حياته فرضاً؟ إن الإنكليزيين صرحا أنهما يخدمان فيلسوفاً يقولان بقوله والرجل يحب أن لا يقبل في انتشار مبدأه مساعدة الذين يرتئون رأيه وقبوله معونة من سواهم حطة من قدره.
وما زال كونت يدفع لامرأته مائتي ليرة سنوياً من ١٨٤٥ إلى سنة ١٨٤٨ إذ هبطت رواتبه بدون سبب إلى ثمانين ليرة ففتح المسيو ليتره وبعض الأصدقاء اكتتاباً لمساعدته فجمعوا من المال ما وسع على كونت ردحاً من الزمن وقد كان في جملة المشتركين بهذه الإعانة المستر ستيوارت ميل الذي لم يمنعه استياؤه من معاملة كونت عن مساعدته وإسعافه.
ويرى المطالع أن كونت لم يتصرف مع أصدقائه تصرفاً يليق برجلٍ عظيمٍ مثله لأن نفسه جمعت إلى خصاله الحميدة من رسوخ العزم وقوة الإرادة والثبات والمثابرة على خدمة البشر نقائص مشينة من الغرور والعجرفة وإذا جاز التمثيل شبهنا كونت ببروتوس وكاتو.
وإذا أراد الإنسان أن يحب كونت وجب عليه أن يتصور حالته التعيسة وحياته المظلمة وخطوبه المتواترة وهو بين هذه الظلمات دائب على إنجاز مهمته لا يكل ولا ينثني فما زال يركب إلى غايته الخطوب حتى فاز بما أراد وكانت القوانين الأساسية للعلوم الموجبة