الغرفة ودخل رجل قصير القامة ممتلئ الجسم نظيف الثياب ملتح ممعن في قبض شواربه حتى لم يبق لها ظل وكان يكتسي الأثواب السوداء ويتأنق في لبسه فكلما رأيته تخاله مدعواً وليمة وكانت عقدة رقبته كأن المكواة مرت عليها حديثاً فاقترب الرجل من أريكته المعدة له وراء المنضدة ووضع علبة السعوط أمامه وبعد أن استمد مرتين ومر القلم على الصحيفة ليرى ملته شرع بكتابة الدرس بادئاً فيه بقوله: كنا قلنا أنه في مثلث غير معين كالمثلث أب ج الخ.
ودام درسه ثلاثة أرباع الساعة والطلبة يدونون الموضوعات المهمة في مذكراتهم ليمكنوا من مراجعتها عل حده ثم سحب من جيبه دفتراً آخراً فأعاد تلاوة الدرس السابق وظل حتى الساعة التاسعة فتناول حقته ونفض ما على معطفه من السعوط وكانت يده في جيب معطفه وفتح الباب وخرج بسكينة تامة.
قلنا آنفاً أنه نشر المجلد الأخير من فلسفته الموجبة سنة ١٨٤٢ وبينا المرء يتخيل عظم المكافأة التي يجب إسداؤها إلى هذا الفيلسوف على اثنتي عشرة سنة صرفها في الجهد والتعب المضنك يجد أن جزاءه كان تزايد المشكلات والخطوب التي تضيق الصدور تضغط على الفكر ففي تلك السنة تفاقم الشقاق بينه وبين زوجته فأدى الأمر إلى انفصالهما بعد أن خصص لها مائتي ليرة راتباً سنوياً ونرى من العبث البحث في هذه المسألة لأن أحوال الزوجين الخاصة لا يطلع عليها حتى أخاص أصدقائهما وظلت مادام كونت بعد الانفصال تفكر في سعادة زوجها ودامت المراسلات الودية بينهما عدة سنين.
وأصيب كونت بحادثة ثانية أثرت فيه وهي أن طابع المجلد السادس علَّق على الكتاب حواشي ينكر فيها حملة كونت الشديدة على أراغو فغضب الفيلسوف لذلك وخاصمه بلجاجة فربح دعواه.
وأشد المصائب التي نكب بها هو أنه ذكر منتخبيه للإشراف على الامتحان في المجلد الثالث بما لا يستحب فأدى ذلك إلى ضياع نصف راتبه الزهيد فضاق كونت بالعيش ذرعاً وأنبأ بفقره صديقاً له منذ بضع سنين وهو المستر جيمس استيوارت ميل أحد علماء المنطق الإنكليزيين الذي أثرت فيه أفكار الفيلسوف واستمد منها معظم أفكاره وآرائه في أصول المنطق وقد كثر مراسلات الصديقين ونشر جزء منها في المدة الأخيرة فهاج رغبة