وبعد أن استجم كونت قواه عاد سنة ١٨٢٨ إلى إلقاء المحاضرات ونشر المجلد الأول في دروس الفلسفة الموجبة سنة ١٨٣٠ بعد تعب كثير وعمل طويل بدأ سنة ١٨٢٦ ولم يكن عمله في المجلدات الخمسة التي تلته أقل عناء فانه لم يتمكن من نشر المجلد السادس إلى سنة ١٨٤٢.
كانت الاثنتا عشرة سنة التي قضاها الفيلسوف في التأليف سني خير وبركه علمه ذاق في خلالها السعادة المادية لأنه دعي في سنة ١٨٣٨ إلى امتحان الطلبة الذين يتوافدون من كل صوب إلى كلية باريس وانتدبته مدرستان كبيرتان لتعليم الرياضيات فأصبح دخله السنوي أربعمائة ليرة ولما كان عهد لويس فيليب دعاه المسيو كيزويه رئيس الوزارة ليدرس تاريخ الفنون وقال له إذا كان هناك أربع كراسي لتدريس تاريخ الفلسفة وجب علينا أن نخصص كرسياً على الأقل لظهور العلوم المثبتة وارتقائها فدل الوزير بذلك على ميله للفلسفة الحسية ولولا اشتغاله بما فوق الطبيعة أيضاً لتقدمت في عهده تقدماً باهراً.
وفي كتاب أرسله كونت إلى زوجته ما يدل على رقة قلبه وسمو عواطفه فقد قال لها في ذلك الكتاب لا أود أن أصف لك هنا الحبور الذي تفيض نفسي به لما أرى الشاب فاز في امتحانه وقرب من آمال الذهبية أنت تضحكين من ذلك ولكنني لا أتمالك من أن أذرف دموعي.
وكان كونت يفكر دائماً في سعادة الآخرين ويسعى إلى منفعتهم بكل سبيل وهذا الاهتمام الدائم حمله على إلقاء الخطب والتدريس في المجتمعات العامة من سنة ١٨٣١ - ١٨٤٨ على ما كان يعترضه من الموانع في هذه السنة حدثت ثورة في باريس أظهر فيها كونت عطفه على المجتمع فقد كان يفضل السجن على الدخول في الفرق الوطنية التي ألفت يومئذٍ ومع أنه لم يدع الناس لحمل السلاح على الملكية فانه لم يقسم لها يمين الإخلاص.
ولم يكن كونت يتأثر من مشاهدة الروايات مع أنه كان كثيراً ما ينتاب الملعب فالمفجعات (تراجيدي) في نظره ظواهر مصنعة ليس فيها من الحقيقة إلا ظل لطيف فقل اكتراثه بها وما سواها القصص المضحكة (كوميدي).
وقد كتب أحد تلامذته عن أحواله وصفاته الشخصية ما يأتي:
دقت ساعة لوكسنبورغ الثامنة وكان صدى صوتها لا يزال يرن في الآذان حين فتح باب