ذوق سليم وفطرة حميدة فتوثقت بينهما روابط الولاء وأصبحت العقيلة عزاءه في أحزانه وأفاضت على نفسه روح الهدوء والسكينة ولو طالت مودتهما لم يظهر اضطراب الفكر في كتب كونت الأخيرة إلا أن الأقدار التي ناصبت الفيلسوف طول حياته فجعته بريحانة نفسه وموضوع سلوته سنة ١٨٤٦ فجرع لفقدها جزعاً شديداً ولازمه الحزن والغم فكان يخرج إلى ضريحها مساء كل أربعاء إذا توارت الشمس في الحجاب يبلله بقطرات دموعه ويجثو في النهار ثلاث مرات احتراماً لذكرها فيستغرق في أحزانه ويستسلم إلى الجزع وكان تلامذته يقولون أنه يقدم لها من الاحترام ما قدمه دانتي لحبيبته باتريس ويشبهون حاله بحال دالامبر بعد وفاة لينياس.
الباحثون في حياة كونت يقسمونها إلى شطرين أحدها يمتد حتى تعرفه إلى العقيلة دي فو والآخر بعد ذلك ويفرقون بين الشخصين كونت الذي كتب الفلسفة الموجبة وكونت الذي ألَّف في السياسة الموجبة إلا أن أعداءه يأبون كل تفريق في هذا الصدد ويقولون إن المختل الذي كتب في السياسة هو نفسه الذي كتب في الفلسفة.
ولم يكد كونت ينهي من نشر فلسفته الموجبة حتى بدأ بنشر سياسته وهذه بالطبع تستند إلى تلك فنشر المجلد الرابع والأخير في سنة ١٨٤٨ وفي هذه السنة حدثت ثورة في فرانسا لم تبد طلائعها حتى هرع كونت إلى تأليف جمعية دعاها الموجبة توقع أن يكون لها الشأن في هذه الثورة ما كان لنادي الجاكوبيين في ثورة ١٧٨٩ وإذا كان كونت لم يدرك جميع آماله في إنشاء هذه الجمعية فقد أدرك بعضها باجتماع تلامذة الفيلسوف ووضعهم مذهباً فلسفياً جديداً كما يهوى ويختار.
وكان كونت سنة ٤٩ و ٥٠ و ٥١ يلقي في القصر الملكي (باله رويال) في باريس محاضرات متتالية يحضرها عامة الناس وخاصتهم فيبحث في فلسفته ومعتقداته ودعاويه وقد ختم محاضرته الأخيرة بقوله:
يا خدمة البشرية والفلسفة الحقيقية يجب أن تتولوا زعامة العالم لأن ذلك حقكم الصريح وأقصى أماني الإنسانية تأليف حكومة أخلاقية مادية فكرية فإن الحكومات التي قامت على دعامات الكثلكة والبروتستانية سقطت لأن الناس اتخذوهما وسيلة لإضرام الثورات وقضاء اللبانات.