ومن غرائب الاتفاق أن يقوم بعض هذه المحاضرة ببضعة أسابيع رجل يدعو الناس إلى طاعته لا ليخدم الإنسانية بل لدعواه أنه صاحب الحق بالسلطة المطلقة وأن يحمل الناس على معرفته كذلك بالقوة القاهرة.
وسنة ١٨٥٢ نشر كونت رسالة في مذهب الإنسانية أظهر فيها ارتياحه إلى ضربة لويس نابليون للحكومة وإنشائه جمهورية هو فيها الحاكم المطلق ومهما يكن من قيمة الفكر السياسي نجد عذراً لكونت في أنه كتبه وهو لا ينتظر أن تؤول الحال لما آلت إليه من الضغط والاستبداد وإلجام المطبوعات.
وأصيب كونت سنة ١٨٥٧ بداء السرطان وقضى في الخامس عشر من أيلول فانتهت حياة مرة تنكر لها الزمان وفي هذا اليوم من كل سنة يجتمع تلامذة الفيلسوف من إنكليز وفرنساويين فينوهون بذكره ويقومون بمراسم سنوها لأنفسهم وقد قبض كونت وهو دون الستين وهنا لا يسعنا إلا أن نشارك جون مورلي في حزنه لعاقبة من أشد عواقب العمر إيلاماً وهي أن يقضي أرباب الذكاء الخارق في تهالكهم على نشر أفكارهم قبل أن يدركوا أمانيهم وتنقاد لهم رغباتهم.
فلسفته
لا تعرف المقادير إلا بمقياسها وقياسها تواً يستحيل في الغالب وأبسط الشواهد يعترضنا من المصاعب في قياس طول بالوحدة المترية إذ يشترط في صحة القياس أن ينطبق المتر على السطح كل الانطباق وأدنى نتوء أو غور يخل بالاستواء يعيد هذا القياس متعذراً تلك أهون المصاعب تعترضنا تعثرنا في أقل البسائط فكيف بها في أرقى المركبات كتقدير الأبعاد بين الأجرام السنوية.
ذاك ما قاد الفكر البشري إلى وضع العلوم الرياضية فإذا تعذر أو استحال علينا أن نقيس مساحة أو نقدر كمية توصلنا إلى ذلك بالطرق الرياضية فجمعنا بين لا يقاس تواً وبين ما يقاس واستخرجنا الأولى من الثانية على قاعدة التناسب.
فلكي نقيس مساحة نمثلها بشكل هندسي كالمثلث مثلاً ونعتبر المناسبة بين الأضلاع والزوايا فتسهل علينا معرفة المساحة. وبهذه لوسيلة وبغيرها من نوعها تمكن الفكر البشري من تقدير الأبعاد بين أجرام وارتقى إلى معرفة حجومها وأشكالها الحقيقية وظواهرها