والثاني الفلسفة المجردة والثالث الفلسفة الموجبة والأول مبدأ ارتقاء الفكر الإنساني والثالث غاية ما بلغه والثاني الحلقة المتوسطة بين الاثنتين.
اتجه فكر الإنسان في الفلسفة الوضعية للبحث في أسباب الحوادث الأزلية وغاياتها الأبدية فتلقى تلك الحوادث آثاراً من فواعل ذات إرادة مطلة يعزو إليها كل ما شاهده بدون أن يفكر في النواميس والسنن.
وارتقت هذه الفلسفة فبدأت الفلسفة المجردة التي أقامت القوى المجردة مقام الفواعل الوهمية وهذه القوى عاربة من الهيولى تسبب الحوادث المشهورة.
أما الفلسفة المثبتة فقد اقتنع واضعوها أن الفكر الإنساني يستحيل عليه أن يدرك معلومات مطلقة فصرفوا نظرهم عن البحث في منشأ الكائنات ومصيرها وقصروا همهم على معرفة نواميس الحوادث فمزجوا بين المشاهدات والمحاكمات العقلية لاكتشاف هاتيك النواميس.
لما ارتقت الفلسفة الموضوعة حتى قال الناس بإله واحد يدبر الكون بلغت أوج الكمال وغاية الارتقاء وأدركت الفلسفة المجردة نهاية شوطها عدما ردت الحوادث إلى الطبيعة ودعتها بالقوة العامة المجردة.
أما الفلسفة المثبتة فهي تسعى لتوضيح أن جميع المحسوسات ظواهر مختلفة لحادثة عامة فمتى تيسر لها ذلك بلغت أرقى درجاتها على أن هذا الارتقاء غير متيسر في الأحوال الحاضرة ولا تدل ظواهر الحال على إمكان ذلك في المستقبل فإذ استطعنا أن نفسر حوادث النور والحرارة والصوت والكهربائية من حوادث المغناطيسية بقولنا أنها نتيجة تموجات فإننا لا نستطيع أن نفسر الحادثات الفلكية على هذا الوجه والفلسفة المثبتة جاهدة في إظهار العلائق بين الحوادث والقوانين الطبيعية وصفتها المميزة صرف الفكر البشري عن البحث في ماهية الحوادث لأنها لا تخوض في هذا المبحث بل تدعه إلى الفلسفة المجردة التي توضح الأزل والأبد بسهولة تامة وتستقصي الأسرار العلوية حتى أدق خفاياها.
يتساءل القارئ بعد أن عرف غاية الفلسفة الموجبة عن الحد الذي بلغته وعلى أي شيء يتوقف إكمالها وما نحن متطرقون في بحثنا إلى ذلك.
لم تمر المعلومات البشرية في الأدوار الثلاثة بسرعة واحدة ولا أدركت الحال المثبتة في آن واحد بل كان أسرعها إلى ذلك الحوادث الفلكية لبساطتها وسهولها وتلتها الحادثات