وبلنويل أما الفلسفة الاجتماعية فإن كونت حسبها لم تؤسس بعد. واختلف الفنون في بلوغ هذه المرتبة لتفاوت درجتها في السهولة فكان أبسطها أقربها إلى الثبوت.
وشرع كونت يفكر بعد ذلك في تعاقب هذه الفنون وارتقائها من أبسط النظريات الرياضية إلى أرقى التصورات الاجتماعية فإن ذلك الاستقصاء إنما هو تتبع ارتقاء الفكر البشري والحوادث تجري على تسلسل طبيعي وهذا التسلسل هو بمثابة رابطة عامة بين النظريات المثبتة في الفنون المختلفة ورأى كونت أن بعضها يجب أن يكون له تأثير في الآخر فجعل العلوم الرياضية أول حلقة من السلسلة لأنها فعلت فيما بعدها لترقيته إلى مرتبة الثبوت وجعل الفلسفة الاجتماعية الحلقة الأخيرة.
قايس كونت بين الفكرين الرياضي والاجتماعي فلم يجد مندوحة عن أن يتخذ الأول دليلاً على نظريات الثاني المثبتة حتى إذا أمكن حصر الارتقاء البشري تحت قوانين معينة استبدل الرياضيات بالفلسفة الاجتماعية لأنه وجد الأولى غير كافية لتأسيس فلسفة حقيقية تامة حتى قال: إن ما بذله المفكرون من المساعي في العصور الماضية لإيجاد فلسفة جديدة تحل محل الفلسفة الموضوعة ذهب أدراج الرياح لأن الذين حاولوا ذلك أرادوا أن يتخذوا الرياضيات ركناً وينشئوا مذهبهم باختلاف طفيف أو كبير وإذا أمكن اقتباس حقيقة من الرياضيات فلا يمكن التوسع في ذلك الفكر وجعله عاماً فإن الحوادث الرياضية قد ضبطت قوانينها (الهندسة والميكانيك) هي في غاية السذاجة فلا يمكن تطبيق شرائعها على المركبات وكثيرون من الرياضيين في عصرنا الحاضر يقولون أن غرائب الحوادث الفلكية والحوادث الاجتماعية الناتجة عن إرادة البشر وقدرتهم غير خاضعة لنواميس معينة.
في الفلسفة الحكمية والكيمومية لا نجد خوارق مما يحملنا على القول أن جميع الحوادث هي ذات سنن مقررة لا تتغير ولكن الحوادث المبهمة المغلقة لا يظهرها على هذا الشكل إلا الفلسفة الاجتماعية فرجح لدى كونت أن يقيم مذهبه على نقطة اجتماعية وسعى في كشف النواميس الثابتة لهذه الحوادث وقد كان الباحثون قبله يستندون إلى افتراضات أو يستعينون بفلسفة ما فوق الطبيعة فأراد كونت أن يجرد المبحث مما يخامره من الأوهام ويدخله في حال مثبته.
وكان كونت يقول بحرية الوجدان المطلقة يريد بذلك أن كل فكر وكل تعبير يستعمل