عن القاعدة التي جرت عليها عند أهل الحضارة الحديثة والقديمة فينجح في العادة من تمرنوا سنين عَلَى العمل الذي يريدون أن يتمحضوا له وعرفوه بدقيقه وجليله وفروعه وأصوله. فالناجح في أرباب المطابع هو الذي سبق له وتعلم في صباه صناعة تنضيد الحروف واستعمال الأدوات والكتابة عَلَى الحجر. والناجح في زراعته هو الذي يحسن معرفة الحرث والكرث بيده ويجيد البذر والتسميد والتشذيب والعزق والسقي والتعشيب وأنواع البذار وما يجود منه وأجناس التربة وما يصلحها وتربية الأشجار والنباتات والقيام عَلَى المواشي والناجح بعمل الأقمشة هو الذي يلم إلماماً مهماً بكيفية نسجها وحياكتها وضروب الحرير والكتان والغزل والصوف. بل والناجح ففي كل فروع الأعمال الاقتصادية والصناعية والتجارية هو الذي مشى في عمله عَلَى سنة الكون فبدأ صغيراً ونمت معارفه بتقدمه في السن فينال من النجاح بقدر جهاده وملاءمة الأحوال له وحالة محبطة وأسبابه ورأس ماله المادي والمعنوي.
هذه المقدمة تنطبق كل الانطباق عَلَى إلياس أفندي جرجي السيوفي صاحب المعامل المشهورة به للتجارة والفرش في بيروت. كتبت لي زيارتها هذه المرة فرأيت صورة مصغرة من صور الغرب في بلاد الشرق وتمثل لي فضل الذكاء العربي وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دون وإن يد أبنائنا صناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا أو تكاد في أكثر البلاد لا تجد لها أثراً بيننا وهي ترجع إلى أسباب رئيسية مهمة أولها الصبر عَلَى العمل وثانيها تجويد العمل وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة وخامسها تنشيبط الآهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ عَلَى الصادر والوارد وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن البلاد الخارجية في الجملة.
دلت معامل السيوفي أن الشرقي بمفرده أمة وأن الأمة بمجموعها ضعيفة بمعنى أن الشرقي يعمل مفرداً أحسن من عمله مجتمعاً وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه اليوم ولو كانت معامل السيوفي في