للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نهضت دولة بني العباس والعرب قد سئموا الغزو وزهدوا فيه لطول ما قاتلوا في الفت والفتوح فمالوا إلى الخفض والدعة واطمأنوا إلى الترف والتعليم.

وقد نضج العقل العربي فنزع إلى البحث والتفكير ورغب في النظر في أنواع الموجود فانقسمت الأمة إلى قسمين كبيرين قسم ينل الحضارة ويهذبها وقسم يترجم العلم ويزيد فيه والخلفاء يشاركونهم في كل ذلكم ويشجعونهم عليه فلم يأت عصر المأمون رحمه الله حتى بلغت العرب من العلم والحضارة ما لم تبلغه الأمم ولم تصل إليه الشعوب.

الخطابة

ولعلكم لم تنسوا تلك الأحزاب السياسية التي أوجدتها الفتن الإسلامية واشرنا إليها آنفاً فقد أضعفت قوة العباسيين أمرها بالمشرق وفلت عزمها فاستحالت إلى احزاب دينية خالصة وقد تركت السيف والسنان ولجأت إلى القلم واللسان واعتمدت عَلَى الجدل والمناظرة معتدة بالعدل والحكمة معتزة بالفلسفة والمنطق فكان للخطابة من ذلكم جمال وروعة لم يكونا لها من قبل ولاسيما بعد أن عرفوا أصول الخطابة عند اليونان بما ترجموه من كتب أرسطوطاليس. . وقد أصبحت الخطابة في أيام بني العباس صناعة تعلم وقد انفرد لدرسها جماعة أشهرهم إبراهيم بن مخزنة السكوني وبشر بن المعشمر وقد وضعوا لها أدباً وشرائط خاصة دون بقية انواع القول واشتد حرصهم عَلَى مراعاة الآداب والشرائط ولكن ذلك كله قد تهيأت له الأسباب في أواخر أيام بني أمية كما هي القاعدة الفطرية فإن تغير الأحوال الأدبية وغيرها لا يحدث بقيام دولة وسقوط أخرى وإنما هو نتيجة تغير خفي في أفكار الأمة وعقائدها ومكوناتها.

وهذا التغير الخفي هو المؤثر الحقيقي في جميع ما يحدث للأمة من الاستحالات الأدبية والسياسية الخلقية.

وقد انحصرت الخطابة لذلك العهد في تلكم الأحزاب السياسية التي استحالت إلى دينية وسميت بالمتكلمين ولاسيما بعد أن استهان الخلفاء بصلاة الجماعة والخطابة وقد بدأت هذه الخصلة في أيام بني أمية وأول من أحدث ذلك فيما أعلم هو الوليد بن عبد الملك الذي أهمل أول أدب من آداب الخطابة فخطب جالساً عَلَى المنبر ولم يكن للناس بذلكم عهداً وكثيراً ما لها الخلفاء بجواريهم عن صلاة الجمعة وأنابوا عليها القواد ورجال الحاشية وقد