وكان الشعب في الكنائس يطفح قلبه بالعواطف التعبدية فلا يقدر عَلَى الإفصاح عنها وذلك لأن الكثلكة كانت تمثل له الإله كسيد كبير أجنبي لا يعبد إلا بلغة أجنبية - اللاتينية - بواسطة قساوسة علماء في تلك اللغة فلم يكن في حاجة للفرد ولا في وسعه أن يخرج من مأزق الحالة الوراثية التي نشأ عليها إلى محيط أفسح مستعيناً بالكلام. وعندما ظهر شيء من الاستقلال في بعض المدن والدساكر أخذ السكان يجتمعون فيتحاورون ويتناقشون في أمورهم وهناك كان للغة دور مهم إذ تفرق الناس شعوباً وقبائل بحسب اختلاف لغاتهم متنازعين فيما بينهم عَلَى السيادة والإمارة.
أما طبقة الأشراف فما كانت لتهتم باللغة لأسباب منها أن حقوقهم في السلطة كانت مضمونة لهم منذ ميلادهم. فكانوا سادة امراء دون أن يفتح الواحد منهم فمه أو يجر قلمه. اعتبر ما حصل في ايامنا في إنكلترا التي لا تخلو تقاليد حكومتها الحالية من بعض عادات القرون الوسطى، إذ أن هولاندياً من سلالة (أيقوسي) - اللوردراي - أصبح فجاة سيداً من أشراف إنكلترا أو عضواً في مجلس اللوردات وذلك لخلو عائلته من وارث إنكليزي ذكر يرث هذا اللقب العظيم. . . بمعتنى أنه أصبح ذا حق في الحكم التشريعي في المملكة البريطانية دون أن يكون مواطناً إنكليزياً أو أن يعرف كلمة واحدة من اللغة الإنكليزية!!! ولما كانت بعض الأحوال العامة تضطر الشريف إلى الظهور كان هذا السيد يتكلم باللاتينية أو ينيب عنه أمير سره باستعمالها.
في مثل هاتيك الأحوال كانت الجنسيات محدودة لأن اللغة نفسها كانت محدودة أما في أيامنا هذه فقد سارت الأمم شوطاً بعيداً حتى في روسيا والعثمانية فالفرد اليوم حر وله حق - مهما كانت منزلته - إن يرقى ويعلو المنزلة التي شاءت الاقتدار أن يولد فيها. أصبح العدل شفهياً والإدارة مفتحة الأبواب لكل الناس تقبلهم في أحضانها وتساندهم بتعليماتها، وكذا المدرسة والجيش. وقد سهلت البرتستنتية عَلَى الشعب عبادة ربه بلغته واستماع التعاليم والمواعظ الدينية بها. فصارت مزاولة الكلام لازمة لكل حرفة ومهنة حتى اضطر أعاظم رجال الدولة بل الملوك أنفسهم إلى تعود سهولة النطق وارتجال الخطب. وهكذا اكتسبت اللغة مكانة عظمى حتى أن كل عقبة توضع في سبيل استعمالها أو كل ضغط يسهل استعمال غيرها من اللغات الأجنبية يشعر به الفرد كعار ألحق به وامتهان بشرفه.