عقولها من الرقي. فاللغة هي أقوى صلة تجمع بين الناس. وأخوان شقيقان لا يتفاهمان بلغة واحدة تلقاهما غريبين أحدهما عن الآخر أكثر من شخصين غريبين التقا لأول وهلة فتبادلا التحية بلغة واحدة.
وقد رأينا الإنكليز وأميركيي الشمال يتشجارون فيما بينهم لاختلاف المصالح ولكنهم سرعان ما يتحدون قلباً وقالباً أمام غير الإنكليز ويشعرون حينئذ بأنهم ابناء أبناء أم واحدة هي (بريطانيا العظمى) ولقد اشتعلت نار الحرب واشتد سعيرها بين الهولنديين والفلمنكيين عام (١٨٣١) وهم اليوم عَلَى وشك عقد اتحاد إخائي كبير. ولما حارب البوير الإنكليز أو لما دافع البوير عن أنفسهم من مطامع إنكلترا السياسية كان قلب الهولانديين يخفق لهم الماص وفرحاً بينما كانت العلائق بين هولاندة وحكومة الرأس (الكاب) قد انقطعت باتاً منذ قرن تقريباً. فلم يمنع استلاف الشرائع والعادات والأخلاق وذكر التاريخ من اشتراك بلجيكا وسويسرا الفرنساويتين (لغة) في الدفاع عن فرنسا في حرب السبعين. وعَلَى الرغم من كره النرويجيين الاحتلال الدنماركي الذي توصلوا إلى التخلص منه أخيراً وبقاء شيءٍ من ذلك الكره إلى أيامنا هذه فقد رأينا النرويجيين إبانوحرب (سلسويك - هولستاين) يتسابقون بحماسة إلى نصرة من لا تجمعهم بهم سوى رابطة صغيرة هي اللغة، وأعظم بها من رابطة.
وقد اتى عَلَى اللغة حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وذلك حين كان الشعب في درك الانحطاط لا وظيفة له غير السخرة وتأدية الضرائب بينما كان الأمر والنهي في ايدي فئة قليلة منالمتسلطين. وكان يومئذ رجل الشعب لا حاجة له باللغة. وماذا تفيده اللغة، الأنين وصب اللعنات أو كتابة مزحات غليظة داخل مغارته؟ إنه لم يكن يختلط بغير رفقائه في القرية وهؤلاء لم يكونوا يعرفوا في اللغة أكثر منه.
أما السياحة والاغتراب ورؤية الغرباء فأمر غير معهود. وما كانت حكومة ذاك الوقت تستعمل غير السوط تكلمهم به دون أن تعمد إلى النحو أو معجمات اللغة. وكانت الديار إذ ذاك بلقعاً خالية من المدارس. وكان رجل الشعب المطالب بحق من حقوقه في المحاكم لا يستطيع الإفصاح عما يكنه صدره أمام القاضي فلا يرى ثمة وسيلة غير الاستعانة بمحام يدافع عنه وما كان مأمورو الإدارة ليسفوا إلى مبادلة الشعب الحديث أو مطارحته الشؤون