بعد انصراف إقليدس برز أرخميدس الصقلي وهو يعد من أكبر الرياضيين القدماء إن لم يكن أكبرهم (٢٨٧_٢١٢ ق. م) فقد أضاف إلى الفن قضايا كثيرة جديدة لم تكن معروفة قبله وتعمق في مباحث المجسمات إلى أن كشف حقائق جمة وأعد لعلماء المتأخرين قواعد نفيسة جعلوها أساساً لطرائقهم في قياس السطوح المنحنية والمجسمات. نعم إن إقليدس وضع في كتبه شيئاً من الأبحاث في الأشكال المنحنية غير أنه اقتصر منها على القليل ولم يتعرض لتمثيلها وقياسها بالآحاد المربعة من السطوح المستوية والمكعبة من الحجوم أما أرخميدس فقد وضع القواعد التي يقتضيها هذا التمثيل في مقالاته النفيسة التي ألفها في الكرة والاسطوانة وفي المقاطيع الكروية والمخروطة وفي قياس الدائرة وقضيته التي أثبتها في أن مساحة قطعة من سطح ثلجي تساوي ثلثي مساحة شكل متوازي الأضلاع محيط بها هي بالحقيقة أول القضايا التي وضعت في تربيع سطح محاط بخط منحنٍ. ومباحثه في اللولبيات بالغة من التدقيق والتعمق درجة عالية بحيث يعسر فهمها حتى على العلماء الراسخين في هذا الزمان. وتوسع في تفصيل الأشكال الإهليلجية المعروفة بالقطع الناقص وهو الذي أثبت النسبة بين محيط الدائرة وقطرها وأحسن استخدام الحقائق التي اتصلت إليه ممن قبله كما أنه أجاد في بسط أفكاره وآرائه وصبها في أسلوب قريب المنال على من بعده. واستخدم الهندسة في الميكانيكيات وكشف كثيراً من القواعد الأساسية اللازمة لهذا الاستخدام واكتشف ناموس الثقل النوعي واستعان به على ترويض القوى الطبيعية وهكذا صرف عمره في العلم والعمل إلى أن قتل وهو لاهٍ في الأشكال الهندسية التي رسمها على الرمل المنبسط أمامه في غرفته قتله الرومان يوم فتحهم مدينة سرقوسة في جملة من قتلوا غيره من العلماء والفلاسفة والخطباء في كل فتح فتحوه وبلادٍ دوخوها.
قلت عندما وصلت إلى هذا الموضع من مقالتي وذكرت مقتل أرخميدس على يد الجند الروماني ألقيت القلم من يدي ووقفت برهة أجيل في خاطري تاريخ الدولة الرومانية التي يطنب الإفرنج بها ويفخرون بعرض جاهها وسعة سلطانها فما مررت للرومان على عمل جليل خدموا به الإنسانية ومهدوا فيه سبيل العلم. نقول عملاً جليلاً ونريد به عملاً يليق بمثل دولتهم ويذكر معهم فيعرف الإنسان حقهم عليه مادام ودامت الأرض بسكانها. ولم أعثر لهم إلا على جيوش متألبة وقوادٍ متنازعة وسيوف مخضبة بالدماء ومدن تركوها