خراباً ودول اسكتوا نأمتها آخر الدهر وعلم أجهزوا على بقية القائمين فيه بدون أن يرثوه عنهم. فهم محقوا التمدن الفينيقي في قرطجنة وقوضوا عمران البطالسة في مصر واستأصلوا جرثومة العبرانيين من فلسطين وأجهزوا على الدولة السلوقية في سورية والعراق وحالوا دون ترقي العمران الساساني في بلاد فارس وأخمدوا شرارة التمدن الذي بدأ يظهر في آسيا الصغرى ونقضوا معاهد العلم والفلسفة والصناعة والسياسة في بلاد اليونان وما تفرع عنها في جزائر البحر المتوسط وبسطوا ظلهم الكثيف على أنقاض هذه الأمم والدول وملؤوها بملاعبهم ومراقصهم وساحاتهم التي شغلوها بصراع الأسود والثيران ومواقف الجنود والفرسان. ولولا أن قام العرب في أواخر دولتهم وأخذوا العلم اليونان واحتفظوا به إلى الخلف في العصور المتأخرة لما كان وصل إلينا من علوم المتقدمين شيءٌ ينقع الغلة. وأغرب من هذا أن كتاب الإفرنج في هذا العصر يغضون الطرف عن الأضرار التي ألحقها الرومان بالتمدن الإنساني ولا يعدونهم من المخربين الأشرار ولو كان الرومان دولة شرقية لأسرع كل كاتب فيهم إلى نعتها بالتخريب والتدمير والإضرار والفساد كما ينعتون دولة التتر التي رفعها جنكيزخان وتيمورلنك هذه جملة معترضة مرت في خاطري وأنا أكتب هذه المقالة فأثبتها وأنا أعلم أن ليس هذا موضعها ولكنه خاطرٌ عنَّ فأثبتناه وفكرٌ ألم فقيدناه.
وبعد أرخميدس اشتهر أبولونيوس المولود حوالي سنة ٢٤٠ قبل الميلاد بما كشفه من أعمال الهندسة الوضعية وهي تعيين محال النقط والخطوط المجهولة وله مقالات في قطع المخروط جاءت في ثمانية كتب انتهى إلينا سبعة منها واستخرج الثامن هالي الفلكي في القرن السابع عشر للميلاد مستعيناً على استخراجه بما نقله بابوس من مكتشفات أبولونيوس منثوراً في فقر شتى. وهذه المقالات كان لها شأن باهر بين علماء الهندسة بعده حتى لقبوه بالمهندس الأكبر فقد أوضح فيها خصائص البؤر والمحترقات ووضع مبادئ المباحث في القطبيات والناميات والحدين الأعظم والأقل. والذي بقي إلى هذا العصر من مؤلفاته كان أكثره محفوظاً في الكتب اليونانية وكان قسم منه منقولاً إلى العربية فأخذ عنها.
بعد ما تركه أرخميدس وأبولونيوس من الآثار في الهندسة صار يصعب على من يأتي بعدهما أن ينال نصيباً من الشهرة في هذا الفن فإنهما لم يتركا للخلف باباً مغلقاً إلا ما كان