فكانت المسودة تتقابل مع المبيضة (أي لابسي البياض من الموالين للأمويين) والناس عَلَى فريقين بعضهم يسود وبعضهم يبيض حتى عم السواد سواد العراق وخفق عَلَى جميع الآفاق. اللهم إلا في الأندلس فإنها عادت أموية بفضل عبد الرحمن الداخل وكان شعارهم الخضرة في الرايات كما يراه الإنسان في البقايا المحفوظة إلى الآن في دور التحف بمدريد وغيرها من أمصار إسبانيا.
وقد تغالى الأندلسيون في أيام دولتهم في كراهة السواد حتى أنهم لم يستعملوه في الحزن والحداد فكانوا يلبسون الثياب البيض فقط في الحداد لئلا يشتبهون بالعباسيين في شيء ما حتى عند وقوع المصائب وكوارث الأيام.
ولقد تجددت في هذه الأيام ذكرى الأندلسيين في حدادهم عَلَى يد غادة من فتيات أميركا وهي تظن أنها مبتدعة للبس البياض في حالة الحداد. أشير إلى أرملة الخواجة استور صاحب القناطير المقنطرة من الدنانير والملايين المملينة من الذهب الوهاج.
فإنه بعد أن غرق حديثاً في الباخرة تيتانيق وهي لا تزال في ربيع العمر وريعان الشباب رأت من الواجب عليها أن لا تشوه محاسنها بلبس السواد عَلَى ما جرت به العادة الشائعة الآن في جميع أقطار العالم فاختارت البياض. فمن لي بتعريف هذه العادة المعينة بأنها ليست من المجتهدات وإنها كانت لعرب الأندلس من المقلدات.
ومن غريب ما يتعلق بالسواد والنساء أن الظافر خليفة الفاطميين بمصر لما قتله وزيره. بعث نساء الخليفة بشعورهن إلى الصالح طلائع بن رزيك وهو يومئذ عامل بمنية ابن الخصيب (أعني أنه كان مدير المينا بحسب اصطلاحنا الإداري الآن) فأسرع لنجدتهن. ورأى أن يستميل الأمة المصرية وأجنادها إليه لأجل إغاثة الحريم والدفاع عن بيضة الخلافة فعقد تلك الشعور عَلَى رؤوس الرماح (كما هو الحال الآن في وضع جدائل الشعر فوق المزاريق التي يتعلقها الرماحة في أوربا وفي مصر) وأقام الرايات السود من باب الحزن عَلَى الخليفة المقتول وعلى ما حل بالقصرين وساكنات القصرين من بيت الخلافة وإعلاناً بالحرب لأخذ ثأر الظافر فدخل القاهرة عَلَى هذه الصورة. فكان ذلك من الفأل العجيب وهو أن مصر انتقلت إلى المسودة (بني العباس) ورجعت إلى حكمهم بعد ذلك بخمسة عشر سنة في أيام العاضد آخر الفواطم وعلى يد صلاح الدين الذي يسميه الإفرنج