المعرفة فظاظة طبائعهم وقسوة قلوبهم وغلظة أكبادهم وحكم حكماً باتاً عَلَى تلك الأمم بسكرة الجهل وتسكعها في مهامه الخمول لأن قساوتها وانحطاط أخلاقها وعوائدها كانت تتجلى في شرائعها بأجلى بيان عَلَى بقائها تحت وقر الجهل ووراء ظل الارتقاء.
وإذا رجعنا فوقفنا عَلَى كثير من شرائع أمم أوربا المتمدنة الآن كإنكلترا وفرنسا وألمانيا وغيرها من أمم العالم المتمدن كأميركا وخصوصاً شرائع مملكتنا العثمانية نحكم بالطبع عَلَى وجوب رقي تلك الأمم لما ينجلي منعكساً عَلَى مرآة شرائعهم الصافية من حسن العوائد وطيب الأخلاق ما يضطرنا أن نقول بارتقاء تلك الأمم طبقاً لارتقاء شرائعها.
ولكن لماذا لا يصدق هذا الحكم عَلَى أمتنا العثمانية وشريعتها من أحسن الشرائع ونظامها من أقوم النظامات؟ لماذا لا يصدق علينا هذا الحكم بل لماذا نحن في تأخر؟ إلا أننا من جنسية غير جنسيتهم ونحن ذرية الذين اشتهروا بالصناعة والتجارة والحماسة والشجاعة والفتوحات والفصاحة والمعارف والحكمة؟ أم لأنهم أقرب منا استعداداً للارتقاء ونحن من القوم الذين أفاض الله عليهم من بركات الحجى ما أقام لهم الاندماج في سلك الرتبة الأولى بين مراتب بني آدم؟ كلا ليست هذه من الأسباب التي أودت بأمتنا بعد أن كان لها من بسطة الملك واستفحال الكلمة ونفوذ الشوكة ما لم تصل إليه أمة من أمم أوربا الراقية. ولكن هو ضعف الإدارة في الأعمال وعدم تنفيذنا الأوامر الشرعية والقوانين المفروضة وقلة رجالنا الأمناء المخلصين كانت من جملة أمراضنا الاجتماعية فقلدنا كما قيل كبائر الأعمال لصغائر العمال أي وضعنا الشيء في غير موضعه فأصبح الوالي ظالماً والقاضي محابياً والجندي خائناً وأمر الشريعة لغوٌ لا يعمل به ولا ينفذ فلا بدع إذا فسدت الأمة بفساد الحكومة التي هي بمنزلة الرأس منها وقد أجاد القائل:
وإذا رأيت الرأس وهو مهشم ... أيقنت منه تهشم الأعضاء
وهكذا يستنتج بأن سلامة الوجود موقوف عَلَى سلامة النظام وسلام الناظم يكفله حسن العمل وذلك مترتب بالطبع عَلَى إدارة مستقيمة حسنة تصدر عن رجال مخلصين أمناء لأن إدارة ميزان كل حكومة وقوام كل مملكة كما أن الرجال سياج الأمة يذوبون عن حوضها ويدرؤون طوارئها فيذهبون بها من غمرات الخلل إلى سواحل النظام والسعة كما قال أنو شروان الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل