وفي سنة ١٧٩٠ احترقت مطبعة ميديسيس ثم أعيد إنشاؤها وبعد أن تقلب عليها الأحوال ونقلت إلى باريز بأمر الإمبراطور نابليون أعيدت إلى إيطاليا وفيها طبع أعاظم مستشرقي الطليان أمثال أماري وسيكابارللي وكويدي كتبهم وما نشروه عن آثار العرب. ولما فتح نابليون مصر وأعلن أنه يراعي للمسلمين معتقداتهم وحقوقهم وأنه لا أرب له إلا قتال المماليك أحلاف إنكلترا رأى أن يستولي عَلَى قلوب المصريين فظهر لهم بمظهر الحياد وحسن الخدمة وبعث يجلب مطبعة لبث الدعوة الشرقية من إيطاليا فأتته إلى مصر واخذ بها يطبع الكتب خدمة للسياسة والتجارة.
فأصيبت من ثم المطابع الشرقية في إيطاليا بضربات السياسة والحوادث وبقيت المدرسة الإكلركية وخزائن كتبها في معزل وعلى ما عرف به المستشرق العالم بالعربية أسيماني من سعة الفضل فإنه من لم يتيسر لبلاده أن تعيد الحياة للمشرقيات بعد انطفأت جذوتها بالفتن والكوائن وانقراض بيت ميديسيس. ونشأ للعربية أستاذ في القرن الثامن وهو القس فللا درس في كلية بلرمة ونشر بعض الكتب ولكن القرن التاسع عش امتاز بآدابه كما امتاز بالحياة في إيطاليا التي هبت قوة حرة وراحت ترفرف نحو كل ما كان فيه مجد ما أيام تاريخها المجيد فأزهرت فيه الدروس الشرقية ولاسيما الدروس العربية والعلوم الإسلامية. فكانت الولايات الجنوبية في إيطاليا تخرج أبطالاً في المشرقيات أمثال المؤرخ والسياسي ميشيل أماري الذي نشر أحسن تاريخ للمسلمين في صقلية وكثير من الكتب التي تدل عَلَى فضل علم وتدقيق. ودروس العربية في كليتي فلورنسا وبيزا ونشأ معه الأستاذ سيكا بارللي مدرس العربية في فلورنسا ثم بونازيا مدرسة كلية نابولي وأغناس كويدي الذي هو اليوم أحد زعماء المجلين من علماء المشرقيات من الطليان وهكذا نشأ لإيطاليا أجلة من المتجرين في علوم الشرق ولغاته وأمراء يفضلون عَلَى العلماء في طبع ما يلزم ونشره.
وكان امتياز إيطاليا قديماً في نشر المعارف في كل البلاد فأصبحت كذلك في عهد وحدتها تريد أن اجعل لكل إقليم حظاً من هذه الخدمة ولمتلبث صعوبة الحياة الحديثة والأطماع القديمة التي يظهر أنها اليوم العامل في حياة الممالك الأوربية أن تحدو إيطاليا السياسية إلى الانتفاع من هذه المعارف النظرية انتفاعاً عملياً.