كثيراًُ ما نراها تحمل في مطاويها معتقدات نشكو من وجودها ومبادئ هي في الحقيقة قوة هذا العصر وشرفه الأثيل. وهذه الأفكار الجديدة الغريبة هي أن يكون لجميع الناس حق الاشتراك في درك الحقيقة وأن يكون عليهم واجبات يقضي بها عليهم واجب العلم وأن تكون بين العلماء وعامة الأمة روابط أدبية ليوحوا إليهم بما في صدورهم من علم صحيح ويشاطروهم ما حازوه من نعمة العقل الواسع والفهم الجم.
وإذا استفتيت التاريخ عن هذه الطريقة التي نراها أنجع الطرق في تعليم الأمة لا تجد لها أثراً في العصور السالفة إذ لم يكن إذ ذاك رابطة روحية بين خاصة الأمة وعامتها بل كان الخاصة يحكمون والعامة يخضعون. وكنت ترى السياسة بأيدي الملك ومستشاريه وتضعف بضعفهم وتقوى بقوتهم والمملكة تفنى في شخص واحد يعمل ما يزن له هواه وحسابه عَلَى الله. وكنت تشهد تحت أيدي المفكرين والعاملين أصنافاً وأجيالاً من الخلق هم الدهماء وعامة الشعب يعملون ويشقون وقلما تتنبه أذهانهم للمطالبة بحقوقهم إلا إذا بلغت منهم الشدة والإعنات والجور مبلغاً.
أما في هذا المجتمع الحديث فإن العلماء والفلاسفة - وعلماء الدين يراقبونهم - يتعرضون للبحث عن الحقيقة التي لا تخلو من خطر لما ينجم عنها من القلب والإبدل وهم يؤلفون مجتمعاً صغيراً هو إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة. مجتمعاً لا نظام له وليس له قانون مكتوب. نشأ بنفسه لنفسه تحدوه مطالب ارتقاء العلم وتسوقه ضرورة المراقبة عَلَى العقول. وهذا المجتمع الذي تتجلى فيه وحدة المجتمع البشري هو مشترك بين الأمم ينتقل من بلد إلى أخرى. وأعضاءه المتشبعون بأفكار واحدة والمتضامنون في عمل مشترك لا دخل فيه لهوى الأفراد يتراسلون ويعرضون المشاكل بعضهم عَلَى الآخر ويقترحون جلها بينهم وإذا ساحوا فإن سياحتهم ليمتعوا أبصارهم برؤية بعضهم وليتعارفوا ويتعاطفوا ويتبادلوا أفكارهم عَلَى صورة مخاطبات تكون عاقبتها بينهم كثرة المراسلة.
وفي رسائل الفيلسوفين ديكارت الفرنسوي وليبنتز الألماني شهادة حية ناطقة بائتمار العلماء في مبادلة الأفكار وتوفرهم عَلَى تحرير العقول من رقها للبحث عن الحقيقة وكان من دواعي الاتصال بين العلماء اعتمادهم عَلَى اللغة اللاتينية وهي اللغة التي كان يتكلم ويكتب بها جميع المنورين.