وكلما كان هذا النهج يتضح ويصير إلى المحسوسات أقرب وإلى البحث لا إلى التصور وإلى تقسيم الأعمال بين أهل الاشتغال من الرجال - كان العلماء يدركون بأن حاجتهم بعضهم إلى بعض ماسة كل المساس. إن أعمالهم ينبغي لها أن تكون متجهة إلى مركز واحد وأنهم كلما اتحدت وجهتهم نحو فكر واحد واشتركوا يداً واحدة في عمل واحد أصبحوا كأبناء الوطن الواحد الذين يسعون إلى إبلاغ بلادهم مبالغ الكمال.
قام بيل الكاتب الفرنسوي (١٦٢٥ - ١٧٩٨) المبشر بدعوة الفيلسوف فولتير بالإصلاح والتجأ إلى هولاندة لأن ظلم لويس الرابع عشر جعل تلك المملكة الصغيرة أرض الأفكار الحرة وهناك اخذ بنشر كراسة عَلَى شكل مجلة تحت عنوان ينبئ بما ينطوي عليه من المعاني الحسان وهو أخبار جمهورية الآداب وهذه الجمهورية التي حد لها ولا تخوم ولا جرم تجل عن المصالح المادية والمطامع ومزاحمة الأمراء ومنها أخذت الإنسانية تدخل في طورها المعهود وعظمتها الفائقة ولكن ما الفائدة من تعارف العلماء واجتماعهم وأي خير يرجى إذا ألفوا من أفرادهم نخبة لا اتصال بينهم وبين عامة الأمة وجهلوا أحوال الأمة لأن كيانها عدن واجتماعها منحل العرى.
جاء القرن الثامن عشر فامتزجت الفلسفة بالحياة وأصبحت تنطق بلسان الناس وتبدو بأشكال منوعة. فدخلت روحها في الراويات والقصص والوقائع التمثيلية والهزلية والمحاورات واستخدمت لغاياتها ما بدر عَلَى قلم الفيلسوف فولتير من قوارص الاستهزاء والتهكم ما انبعثت له قريحة الحكيم ديدرو وما تدفق من معين البلاغة عَلَى لسان جان جاك روسو. أخذت الفلسفة تحمل حملات عَلَى السلطة المطلقة وتدك معالم الأوهام وتفتح العيون لتريها سخف السخفاء وكانت تنظر إلى ذلك من قبل نظر الاستئناس لتكرره عَلَى النظر. وتنبه الأفكار التي أصيبت بها الناس في عاداتهم وأخلاقهم وتهزأ بمن لم ينطبع بطابع التسامح وبمن لا تشمئز نفسه من الظلم الفاضح وتبن مسافة الخلف الذي حدث بالتدريج بين هذه الأعمال البربرية والوجدان البشري ذلك عَلَى الرغم من أنصار التقليد والمحافظين عَلَى الأوهام الخيالات وهناك نشأت قوة جديدة وأعني قوة الرأي العام عَلَى أن هذا الرأي العام لا يزال مقصوراً عَلَى أرباب القصور وصادراً عن خاصة الناس وعلية القوم من أرباب الأموال والأملاك وقادة الأفكار من الفلاسفة وربات الأفكار من النساء وكلهم بما