وانقلب الصحافة ظهراً لبطن بما اخترع من الآلات فإن الآلة الطابعة بالبخار اخترعت سنة ١٨١٤ على يد إدارة الجريدة الإنكليزية التيمس ثم اخترعت آلة تنضيد الحروف ثم آلة الروتاتيف التي اقتصدت من الوقت اللازم للطبع وقللت من اليد العاملة ومكنت من طبع عدد كبير من النسخ في وقت قصير ونفقة قليلة جداً. فانتشرت الصحف اليومية السياسية بين طبقات الشعب فأخذوا يبتاعونها بالمفرد. وكانت من قبل مقصورة على مشتركين من أهل الطبقة الوسطى وتعد من علائم الظرف والزينة. ولقد حاولت الحكومات أن تحظر على الصحف الانتشار بين جمهور الناس فوضعت ضريبة الطوابع عليها أولاً (وهي الطريقة التي تصورتها إنكلترا منذ القرن الثامن عشر) ثم بإكراه أصحاب الصحف على وضع ضمان (وهي طريقة حدثت في فرنسا سنة ١٨١٩) أو بوضع ضريبة على الورق. دع القضايا التي كانت تقام على الصحف وما ينالها من الإلغاء بالطرق الإدارية (التي أحدثت ضعفاً محسوساً في بياعات الصحف عقيب الارتجاع الذي قام ضد ثورة سنة ١٨١٤) بيد أن الصحف الرخيصة على الرغم من عداوة الحكومات انتهى أمرها بأن تدخل دخولاً قطعياً في أخلاق أوربا بأسرها.
وبعد فإن الجريدة اليومية بقوة انتشارها الذي لا يفوقه انتشار قد أصبحت في المجتمعات الحديثة إدارة للاشتهار لا في التجارة فقط بل في السياسة واستعيض عن الطرق في نشر أعمال الحكومة (كالقوانين والأوامر والأحكام) بإذاعتها والإعلان عنها والمناداة بها بنشرها في الصحف وقد جعلت الجرائد من الباطل منع نشر أعمال رجال الدين وكذلك حق كتابة المعاريض التي جعلت قديماً من جملة الحريات الأساسية وللجرائد تأثير في الرأي العام بواسطتين فإنها لا تبين فقط أعمال الحكومة بل عمالها وتناقش فيها فهي الذريعة الوحيدة المؤثرة في مراقبة سوء استعمال السلطة وتعرض الآراء وتنشرها وذلك من الشروط الضرورية في إنشاء الأحزاب السياسية.
أتى زمن على الصحف عدت فيه من أدوات الظرف بين الطبقات الموسرة واحتكرت فيه الطبقة الوسطى الحياة السياسية والمراقبة والمعارضة وما كان سائر الشعب يتدخل في الحياة العامة إلا بما يقوم به من الثورات والفتن. فأدخلت الرخيصة الثمن في هذه الطبقة الجامدة تياراً من الدعوة المعارضة بدأ بالتهذيب السياسي في الشعب وبنشوة الحياة