فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيارز ومن تحتها سفرة ادم فاضلة غليها وحواليها مناديل الغمر من الثياب المقصور فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية واخذ القوم في الأكل وأبو الحسن بن الفرات يحدثهم ويباسطهم ويؤنسهم فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه ويغسلون أيديهم والفراشون قيام يصبون الماء عليهم والخدم وقوف على أيديهم المناديل الدبيقة ورطليات ماء الورد لمسح أيديهم وصبه على وجوههم فمن كانت له من الكتاب حاجة قام إليه وخاطبه فيها وسأله إياها ومن أراد اطلاعه على سر يجب الانفراد معه فيه فعل مثل ذلك.
ونتم ترون بهذا الوصف أن القوم لم يكونوا دون أهل هذا العصر في مجالسهم ورفاهيتهم ومسلياتهم وتسامحهم فان أرقى قصر من قصور الملوك والأمراء في الشرق والغرب لعهدنا ليس فيه من الاستعداد والتأنق في العيش والنظام في الطعام أكثر مما كان لابن الفرات وجماعته.
فعسانا نقتدي بالنافع من مظاهر أجدادنا في أوقات العمل والفراغ كما نأخذ عن الغرب كل ما ينفعنا في خلوتنا وجلوتنا وترقية اجتماعنا وشعورنا وشممنا وعقولنا وهذا لا يقوم إلا إذا راعينا النظير في الداخلين فقربنا كل سري عرف بحسن السيرة والسريرة ونبذنا كل معربد طائش لم يبلغ بتهذيبه مستوى أقرانه وان كان يحمل ذهباً كثيراً.
نعم نبعد السكيرين والمقامرين ليكون النادي لائقا بان يغشاه النبلاء لا حانة يضم جدرانها السفهاء وبذلك يصبح أحسن واسطة لتعارف الشرقي بالغربي فكما أن أهل المذاهب المختلفة لا تقوم لهم وطنية بدون تعارفهم وتعاطفهم هكذا المدينة لا تقوم على أصولها إلا بمناصرة الشرقي للغربي والغربي للشرقي. مدينة القرن العشرين تقوم بتبادل المنافع والأفكار أكثر من قيامها بالتقاطع والشجار فالله اسأل إن يعلمنا من مدينة الغرب ومدينة العرب ما تنبسط له النفس ويطيب له القلب فان سرعة ائتلاف قلوب الأبرار_كما قال احد الحكماء_كسرعة اختلاط قطر المطر بماء الأنهار وبعد قلوب الفجار من الائتلاف كبعد البهائم من التعاطف نكون على حد قول الشاعر:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كان به عن كل فاحشة وقراً