قسماً كبيراً من أوقاته في هذا الشأن حتى أن العلماء والأدباء كانوا لا يفارقونه وإذا اجتمعوا بداره سما إلى مناظرتهم من حيث العلم والتواضع لا من حيث السيادة عليهم وهو بموضعه الجليل من الخلافة وقد بلغ به التواضع أن معاوية الضرير المحدث إذ جلس أمامه إلى طعامه قام الرشيد من موضعه وصب على يده الماء.
على أن الباحث يعلم أن معاوية هذا لم يبلغ درجة من العلم يضارع بها الرشيد وكان جل عمله محصوراً بالحديث فأين هو من الرشيد الذي كان يضرب بكل علم بسهم صائب وإنما حمل الرشيد على التواضع لمعاوية أمر مهم وهو الترغيب فإن الناس إذا رأوا العالم يصل إلى هذا المقام من الاحترام حتى من العظماء وتنهال عليه المبرات المادية والمعنوية يتسارعون إلى طلب علم.
ولما انتقلت الخلافة إلى المأمون نهض لخمة العلم أيما نهضة وأتم ما بدأ به سلفه من الترجمة والتأليف وكان مفطوراً على محبة العلم والعلماء بل لم ير في أولاد الملوك من تعشق العلوم الحمية والفلسفية مثله على حداثة سنة وقام بين العلماء قيام الأسد لمناظرتهم في جميع أنواع العلوم فمن كانت هذه سيرته في حداثة سنة فما بالك به وقد بلغ مبلغ الرجال واستلم زمام الخلافة وكان مع سعة عمله كثير الميل إلى القياس العقلي وطالع أكثر الكتب التي ترجمت إلى عهده وقد بلغ مبلغاً من العلم قل من يدانيه به فنقل عنه انه أولم يوماً وليمة لخاصة العلماء المقربين إليه وقد ظن بعض الحاضرين انه وضع أكثر من ثلثمائة لون وكلما وضع لون نظر المأمون إليه وقال هذا يصلح لكذا وهذا نافع لكذا فمن كان منكم صاحب بلغم ورطوبة فلتجنب هذا ومن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا ومن أحب الزيادة في لحمة فليأكل من هذا ومن كان قصده قلة الغذاء فليقتصر على هذا وما زالت تلك الحالة حتى رفعت الموائد فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين أن خضنا في الطب فأنت جالينوس وفي معرفة النجوم فأنت هرمس أو ذكرنا السخاء فأنت فوق حاتم أو في الفقه كنت علياً ابن أبي طالب أو ذكرنا صدق الحديث كنت أبا ذر في صدق لهجته. وكان أحب إليه من الملاهي لعب الشطرنج يمارسه كأبيه لاستنباط الحيل فيه حتى لم يكن في الناس من يفضله فيه وهو القائل في الشطرنج:
أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين ألفين موصوفين بالكرم