للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ادري، وغاية ما في الباب أن دجلة ضعيفة جربته ويعللون لذلك أن وقت الفيض لم يحن بعد لأنه يبتدئ من آذار وينتهي بانتهاء شهر أيار على الحساب الغربي إلا أن هناك مؤثرات أوجبت هذه البطاءة في سير دجلة وهو ذهاب المياه في الاهوار ضياعاً من جون أن تنتفع منها التربة، وقد صادف في طريقنا ظهور جزر كثيرة في وسط دجلة فكان ربان الباخرة وهو من أبناء يعرب المقتدرين يتقي الأخطار بفطنته ودرايته فسار بها على مقتضى الحكمة والخبرة خشية الارتطام بإحدى الجزر والجنوح إلى الشاطئ وهذا العارض الطبيعي قد يسر لنا مشاهدة ما أمامنا من الرياض والغياض والحقول وقد كنا نسمع عن كثب أنين النواعير وخرير المياه وحفيف الأشجار وتغريد الأطيار وصغار الخراف وخوار العجول التي هي اوقع في النفوس من أوتار الموسيقار وألذ على القلوب من ضرب البيانو وغناء ربات الجمال. وكان النسيم عليلاً فيهب علينا من جهة الغرب حاملاً بين برديه أريج الأزهار وروائح الإثمار فأنشدنا قول الشاعر:

إن هذا الربيع شيء عجيب ... يضحك الأرض من بكاء السماء

ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء

واصلت الباخرة بنا السير وهي تشق عباب دجلة الجميل فما وقعت أنظارنا إلا على ارض ضاحكة مستبشرة قد كستها الطبيعة حلى خضراء تبهج الناظرين وكنا نرى أشجار النخيل الباسقة ممتدة على ضفتي النهر وبينها القصور الشاهقة والمباني السامقة وكانت تحجبها عنها نور الشمس أحياناً لارتفاعها وذهابها صعداً في الهواء وممرنا بنهر ديالة المشهور في كتب العرب باسم نهر تأمرا ومنبع هذا النهر من غربي اسداباد في ديار العجم عند الدرجة ٣٠ والدقيقة ٤٠ عرضاً شمالياً وطوله ٣٥٠ متراً ومصبه في ساحل دجلة الأيسر على بعد بضعة فراسخ من بغداد وهو يمر بخرسان العراق وتتفرع منه بضعة انهر كنهر الخالص وبلدوزر وغيرهما، وكان لهذا النهر شأن خطير في حضارة القطر العراقي، ويجري فيه من المياه ما يناهز ٣٠٠ متر مكعب في الثانية أيام الفيض و٥٠ متراً مكعباً زمن هبوط المياه بيد إنها لا توجد في كل الشهور ويبتدئ موسم فيضه من شهر تشرين الثاني وينتهي في تموز على الحساب الرومي، وموقف هذا النهر يساعد على أسقاء ٢٠٠ ألف هكتار من أخصب البقاع وأكثرها استعداداً لزراعة قصب السكر والقطن على اختلاف أنواعه.