وقد بلغ عرض دجلة في هذا الموضع نحو ٣٨٠ متراً مكعباً وكمية ما يجري فيه من المياه تبلغ ١٢٠٠ متر مكعب في الثانية على انه في فصل الربيع يبلغ نحو ٤٠٠٠ متر مكعب ويظل يتناقض حتى يستقر في شهر كانون الأول والثاني على ٤٥٠ متراً مكعباً في الثانية وإذا دخل شهر شباط ابتدأ الفيض تدريجياً حتى يبلغ منتهاه في شهر آذار وأكثر ما رأيناه في طريقنا من البساتين والحقول والمزارع يسقى بالكرود والآلات الرافعة للمياه تحرك بالبخار أو بالبترول، وفقر الفلاح وغناه منوطان بقربه من المدينة بغداد وبعده عنها فكلما دنا منها كثر ماله وحسنت حاله وازدادت أرباحه لان أكثر نواتج بقاعه من بقول وفاكهة وإثمار تجد في أسواقها تجارة نافقة والأمر بالعكس مع الفلاح الذي بعدت أرضه عن المدينة، وقد سرنا ما رأيناه من نشاط الفلاح البغدادي واجتهاده في تربية النخيل وأعمار الأراضي الغامرة وحرثها والاستفادة من تربتها وآثار ذلك بادية في حقوله وكرومه وظاهرة في جنائنه ورياضه ولو احكم وسائل السقي واقتفى اثر الفلاح الأوربي في الحرث على الأصول الحديثة وعضدته الحكومة بالمحافظة على زراعة وضرعه وكفلت له السلامة من الغرق لكانت البلاد اليوم في ارفع درجات العمران وفي اوج العلاء والتقدم.
وعلى طول زهاء عشر ساعات امتدت على ضفتي دجلة قصور قوراء توفرت فيها أسباب الرفاهية والنعيم قد شيدها أعيان الوزراء وموسروها على الطراز الأوروبي ولم يذخروا واسعاً في إعداد كل أدوات الزينة من الأثاث والرياش الفاخرة مما لا يقل عما في قصور الملوك وعظماء المتمولين في البلاد الأخرى وفيها يقطن الأعيان فصلي الربيع والصيف لقضاء الشهوات والتنعم بلذيذ العيش الذي هو بعرفهم عبارة عن اللهو والقصف والملبس الجميل والمأكل الفاخر وأكثر ما شاهدناه من آثار العمران لأغنياء الإسرائيليين والمسيحيين وما بقي وهو شيء قليل بيد المسلمين. ومع هذا فانك تجد الفرق ظاهراً بين المعيشتين فترى النظام والترتيب وحسن الذوق يغلب على قصور غير المسلمين وبعكسه تجد في دور أغنيائنا على أن ما ينفقه المسلم في سبيل انه وراحته يبلغ أضعاف أضعاف ما ينفقه المسيحي والإسرائيلي، وما ذلك إلا من معرفة هؤلاء طرق الاقتصاد وتفننهم بالإدارة المنزلية وعدم إلمامنا بالمسائل الاقتصادية وإهمالنا أمر العناية والتحقيق في إدارة بيوتنا وتنظيم شؤون اسرنا.