جاءت لوزان لتطب أحد أولادها ونزلت في المنزل الذي أقمت فيه فلاحظت أمرها مدو أربعة أسابيع أنظر عناية الأبوين بتربية أولادهما فكان الوالد يوقظ الأولاد في الساعة السادسة والنصف ويأخذ في إلباسهم ثيابهم مع زوجته وهذه تسرح شعور الابنتين وتمشطهما فإذا تناولوا طعام الصباح يرافق الثلاثة من أولاده إلى المدرسة لأنه وضعهم في المكتب مع أن مدة مقامه في تلك المدينة لا تتجاوز شهرين ثم يعود إلى الدار ويحمل ابنه الطبيب ويعود به بعد ساعتين فيجيء الأولاد في وقت الظهر وبعد تناولهم الطعام يعود فيشيعهم ثانية إلى المدرسة وربما عاد إليهم في المساء ليصحبهم أو اكتفى بانتظارهم للخروج بهم مع والدتهم إلى النزهة. عناية فائقة من هذين الوالدين اللذين لا يعرفان غير تعهد صحة أولادهما وتعليمهم وتربيتهم وتخريجهم على الآداب والفضيلة والتدين.
هذه الأسرة من أسر الأرياف أو ألفلاحين من أهل الطبقة المتوسطة التي تكون على شيء من اليسار ولطالما هنأت الوالدين على عنايتهما بأولادهما وقلت لهما أن الأسرة ألفرنسية لو كانت كلها مؤلفة على هذا النحو وتربى بمثل هذه العناية وتتعهد بما يشبه هذا الحنان ألفتان لاستحت فرنسا أن تشكو من قلة نفوسها وانحلال التربية في بعض عواصمها ولهذه الأسرة مئات الألوف من الأمثلة ومثل ذلك يقال في جميع ديار الغرب.
والمثال الثاني الذي رأيته يمثل درجة أخرى من درجات الأسرة رأيته في إيطاليا في قصر من أعظم قصور الكبراء الذين جمعوا بين الطريف والتليد وأعني به منزل صديقي الأمير ليوني كايتاني الذي صرفت أياماً في الاشتغال في مكتبته أبحث عن تاريخ بلادي وأجدادي فإن هذا الرجل الشريف في أمته الغني بعلمه وماله لم يرزق سوى ولد واحد هو دون العاشرة ولما جاء وقت تعليمه أرسله إلى سويسرا يتعلم فيها ولم تأخذه الشفقة عليه وآثر أن لا يراه وأن يربى تربية راقية صحية على أن يكون في داره القوراء بين والديه وأهله وقبيله.
والمثال الثالث أتيكم به من بودابست عاصمة المجر فإن العلامة غولد صهير شيخ المشرقيات في هذا العصر لم يرزق سوى ولد واحد علمه فلما زوجه أخرجه من بيته على عادة الإفرنج بإخراج أولادهم من دورهم متى شبوا وتأهلوا ليؤلفوا أسرة برأسهم ويعيشوا مستقلين عن أبويهم فلا يقع نفور بين الكنة وحماتها ولا بين الولد ووالده والراحة في