الأسماع وارتاحت له القلوب وخف على السن الرواة وشاع في الآفاق ذكره وعظم في الناس خطره وصار ذلك مادة للعالم الرئيس ورياضة للمتعلم الريض فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة ومصلحة حال الخاصة وكان ممن يعم ولا يخص وينصح ولا يغش وكان مشغوفاً بأهل الجماعة شنقاً لأهل الاختلاف والفرقة جمعت له الحظوظ من أقطارها وسبقت إليه القلوب بأزمتها وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته وجبلت على تصويت إرادته ومن أعاره الله من معرفته نصيباً وأفرغ عليه من محبته ذنوباً حنت إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ وكان قد أغنى المستمع من كد التكلف وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم ولم أجد في خطب السلف الطيب والأعراب الأقحاج ألفاظاً مسخوطة ولا معاني مدخولة ولا طبعاً ردياً ولا قولاً مستكرهاً وأكثر ما نجد في خطب المولدين البلدين المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب أو كان من نتاج التخير والتفكر
(٥) مكانة الخطابة وعيوب الخطباء
تقدم لك قانون البلاغة الذي وضعه عمرو بن نجر الجاحظ في صفحة وتدارسه يغني طالب الخطابة عن كتاب ورب مقالة خير من سفر ولقد عرفت العرب ما كانت عليه من الغريزة ألفائقة في البيان صعوبة الخطابة وأنها لا يوفق إليها إلا أفراد ولذلك كانت تكرم الخطيب أكثر من إكرام الشاعر وقد ضربت المثل بالخطيب في قولها (الخطب مشوار كثير العثار) والمشوار هو المكان الذي تعرض فيه الدواب وقالواعقل المرء من فوق بلسانهوكانت تتعاير بألفهاهة وقلة الإجادة في البيان وتقول نعوذ بالله من الإهمال ومن كلال الغرب في المقال ومن خطيب دائم السعال قال بشر بن معمر في مثل ذلك
وضربوا المثل بالبلاغة بسحبان وائل فقالوا فلان أخطب من سحبان كما ضربوا المثل بالعي في الكلام بباقل فقالوا فلان أعيى من باقل وقد جمع الجاحظ في البيان والتبيين كثيراً من أخبار البلاغة والحصر والخطباء والبلغاء والإيمياء ومما قال: وليس حفظك الله مضرة